حسين ساف إعلامي مختص في تكنولوجيا المعلومات وعضو المجلس الإداري لمنتدى شمال إفريقيا لحكامة الأنترنيت
العلم الإلكترونية - حاوره أنس الشعرة
أكد حسين ساف، إعلامي مختص في تكنولوجيا المعلومات وعضو المجلس الإداري لمنتدى شمال إفريقيا لحكامة الأنترنيت، أن توصيات "الكتاب الأبيض للصحافة الإلكترونية" كانت سابقة لزمانها ولم تطبق لحد الآن وهي ماتزال صالحة ليومنا هذا، وأبرز عضو المجلس الإداري، أنه يلزم إنقاذ المقاولات الصحفية من الأزمة الخانقة التي تعيشها.
وطرحَ المتحدث، في حوار مع "العلم"، بديلاً للأزمة التي تعيشها الصحافة الرقمية، والمتمثلة في تقنية "سلسلة الكتل الهرمية" (Blockchain)، المستمدة من حكامة التعاونيات، التي أضحت أساس الاقتصاد الاجتماعي والتضامني الذي تتبناه العديد من المقاولات الناجحة عبر العالم، والتي يحميها في نفس الآن، من التضخم والأزمة الاقتصادية الخانقة ومن التنافس المفلس.
ويدعو ساف، إلى اعتمادِ حكامة الرقمية في قطاع الصحافة، ويعتبرها الحل المثالي لملاءمة واقع الصحافة مع واقع بيئة الأنترنيت، المجانية والشمولية.
الأستاذ حسين ساف، هلاّ عرّفتمونا بمساركم الأكاديمي والمهني؟
إنني نبتة لها جذور في مشتل الآداب الأصلية وفقه الشريعة، وساق في حديقة القانون والعلاقات الدولية، وغصون ترعرعت لمدة سبع سنوات في حديقة الصحافة بوكالة المغرب العربي للأنباء بزنقة اليمامة بالرباط، وفي فضاء الوظيفة العمومية لمدة اثنا عشر سنة بوزارة الاتصال بالمدينة ذاتها. إلا أن هذه النبتة استغلت من جهة تفتح زهور ثمارها، التي نقتلها رياح المغادرة الطوعية سنة 2005، لسبر أغوار ريادة الأعمال في مجالات تكنولوجيا المعلومات وصناعة المحتوى الرقمي، ومن جهة أخرى لتساهم باسم فدرالية تكنولوجيا المعلومات، في صياغة الكتاب الأبيض للصحافة الإلكترونية سنة 2013، الى جانب تمثيل المغرب في الأشغال التحضيرية للقمة العالمية لمجتمع المعلومات، واجتماعات خبراء من مشارب مختلفة، والذي كان له الفضل في مشاركتي في صياغة استراتيجية المغرب الرقمي 2009-2013.
علاقة بمساركم المهني، كيفَ تنظرونَ إلى وضعية المقاولة الإعلامية بالمغرب؟
في الحقيقة، أنا مدين بتوجه مساري المهني نحو مجال التحول الرقمي أولا لوكالة المغرب العربي للأنباء التي تدربت فيها لمدة سبع سنوات، على خبايا وخوارزميات معالجة قصاصات الأخبار الوطنية والدولية، والتعامل بمهنية مع الأولويات والمقدسات والممنوعات. كما أن الوكالة منحتني فرصة العمر لاستكمال التكوين في شعبة ماستر علوم الإعلام الذي غير مجرى حياتي الأكاديمية، في الوقت الأنسب، من قانون وسياسة وعلاقات دولية إلى عالم التخصص في الرقمنة والأرشيف الصحفي ومعالجة البيانات"Data Scientist "، كما أنني من ناحية ثانية مدين لوزارة الاتصال التي علمتني طيلة 12 سنة بروتوكولات العلاقات العامة والتعامل مع الصحفيين ومع أجهزة الصحافة الوطنية والدولية و المؤسسات العمومية والحزبية والنقابية والمنظمات الدولية، لكن كانت فرصة المغادرة الطوعية سنة 2005 فرصة ذهبية للانفتاح على القطاع الخاص وريادة الأعمال في وقت أوصت فيه القمة العالمية لمجتمع المعلومات (2003 خطة عمل جنيف و2005 أجندة تونس)- بأن السياسات العمومية والاقتصادية والاجتماعية قد انتهى عصر إعدادها الانفرادي من طرف المؤسسات العمومية فقط بل شرعت مبدأ التشارك مع القطاع الخاص والمجتمع المدني والمنظمات الدولية . كل هذه التعلمات والتجارب جعلتني أنظر الى واقع المقاولات الصحفية نظرة مزدوجة نظرة مهنية ونظرة تكنولوجية ولكل مقام مقال، تعيش اليوم المقاولة الصحفية في زمن قلب فيه التحول الرقمي واقع المقاولة الصحفية رأسا على عقب حيث تغيرت الممارسات الصحفية وظهرت مهن جديدة وفاعلون جدد، ونماذج اقتصادية لم تعرفها المقاولات الصحفية من قبل وأساليب حكامة غير مسبوقة، ورغم صدور القانون الجديد لتقنين مجال الصحافة والنشر حاول محاربة كثرة المواقع الإلكترونية التي تجاوز عدده الالفي موقع سنة 2012.
وقد جاءت هذه المحاولات للملائمة القانونية للمقاولات الصحفية بعد مبادرة إعداد "الكتاب الأبيض للصحافة الإلكترونية" الذي تم إعداده سنة 2012 تحت إشراف وزارة الاتصال، لكن بإشراك خبراء ممثلين "لكل الجهات المعنية" وفق توصيات القمة العالمية المذكورة (من قطاع خاص ونقابة الصحافة ووزارتي الاعلام والوظيفة العمومية ومكتب حقوق المؤلف – حيث كان لي شرف المشاركة في إعداده باسم فدرالية تكنولوجيا المعلوماتAPEBI.org.ma) ).
وأقول إن توصيات هذا "الكتاب الأبيض للصحافة الإلكترونية" كانت سابقة لزمانها ولم تطبق لحد الآن وهي ماتزال صالحة ليومنا هذا. لإنقاذ هذه المقاولات الصحفية من الأزمة الخانقة التي تعيشها في ظل أكبر مؤامرة صمت عايشتها في حياتي المهنية. وذلك رغم الاعتراف الرسمي بالأزمة التي تعيشها، والمصرح بها على لسان وزراء سابقين ومسؤولين نقابيين وجمعويين ومسؤولين كبار عن مقاولات ومؤسسات صحفية وطنية كبرى. أخرها أعلن عنه بتصريحات رسمية (رفقته روابط تسجيلات فيديو) بمناسبة اليوم العالمي لحرية الصحافة 2 يونيو 2022.
تعد تقنية سلسلة الكتل "بلوك تشين" منَ التقنيات الهامة في مجال حكامة بيئة الأنترنيت حاليا، برأيكم هل يمكن تطبيق فلسفة هذه التقنية في ظل الإكراهات التي يعج بها المشهد الإعلامي والصحافي ببلادنا؟
لا تقوم هذه التقنية، على أساس فلسفي، بل تستمد جذورها من ممارسات أجدادنا، لكونها مبنية على "ذكاء الأفراد والمجموعات" وعلى أساس إلغاء "حلقات البنيات الوسيطة" التي تقوم عليها كل العلاقات الهرمية للمعاملات بين مختلف فئات المجتمع التي تخضع لتدرج السلطة للقيام بمختلف العمليات التي تسير في اتجاه واحد، الشيء الذي يفتح المجال لاستغلال السلطة الهرمية وحجب بعض العمليات أو توقيفها أو تغيير مسارها ولا يمكن الاطلاع الا من طرف من هو أعلى درجة مباشرة.
في حين أن حكامة العمليات المبنية على البلوك تشين أي "كتل متسلسلة وموزعة في كل الاتجاهات بشفافية تامة ومسؤولية تضامنية مبنية على التصديقات الجماعية بصفة تفاعلية وآنية"، مستمدة من حكامة التعاونيات التي اخترعها أجدادنا وأغفلناها لكن حاليا أصبحت هي أساس الاقتصاد الاجتماعي والتضامني الذي تتبناه المقاولات الصينية والتي يحميها ليومنا هذا من التضخم والأزمة الاقتصادية الخانقة ومن التنافس المفلس. وهذا ما أصبح يسمى بلوك تشين، وهي التكنولوجيا التي أحدثت ثورة نوعية في مجال العملة الرقمية التي تدار عملياتها بدون وساطة الأبناك وتتم مباشرة بين الأفراد والمؤسسات، وتحارب من كل جانب لما يشكله انتشارها من خطر على مستقبل الأبناك التي تتذرع بحجة كون العملة الرقمية تسهل تبييض الأموال. كأن الأبناك بريئة تماما من هذه التهمة! إن نجاعة هذه الحكامة في قطاع الصحافة يكمن في كونها الحل المثالي ليتلاءم واقع الصحافة مع واقع بيئة الأنترنيت.
إذن، كيفَ يمكن لقطاعي الصحافة والنشر اليوم الاستفادة منَ هذه التقنية؟
الواقع، أنه يمكن لقطاعي الصحافة والنشر اليوم الاستفادة منَ تقنية "البلوك تشين نظريا"، لكن من الناحية العملية الأمر يقتضي توفر متطلبات منطقية وضرورية، على سبيل المثال، في مشاريع التعمير لا يمكن بناء مجموعة سكنية على أنقاض بنيات عشوائية متهالكة لم تحترم المعايير الأساسية للتجهيز والبناء، وفي قطاع الصحافة نفس الشيء، هناك معايير أساسية اتفق عليها مند 2013، وهي توصيات الكتاب الأبيض للصحافة الرقمية المذكور أعلاه والذي حدد خمس تحديات للأسف لم تحترم كلها ليومنا هذا. لذا في اعتقادي لا يمكن إنجاح استفادة قطاع الصحافة في المغرب من تقنية البلوك تشين كأساس لحكامة المقاولات الصحفية الناجحة، إلا أذا توفرت أجوبة لهذه التحديات الأربعة، وهي:
تقول تقارير حديثة، إن مجال صناعة الإعلام والترفيه سوف يدار من قبل الشركات والمؤسسات والأشخاص الذين ليس لديهم أي معرفة بمهنة الإعلام مستقبلا، في اتجاه تقرؤون مثل هذه التقارير ذات الصبغة التنبؤية بمستقبل الإعلام والصحافة؟
الواقع الجديد أن مجال صناعة الإعلام كان منذ نشأته مرتبطا بسلطة النخبة السياسة والتي عايشنا ارتباطها الوثيق بسلطة القوى الضاغطة لنخبة المال والأعمال، لكن حاليا نلاحظ أن صناعة الإعلام أصبحت مع العولمة ومنصات التواصل الاجتماعي التي كسرت الحدود الجغرافية أصبحت تواجه دخول فاعلين ومؤثرين جدد ومهن جديدة ومتطلبات غير مسبوقة فرضت نماذج اقتصادية ابتكارية شكلت قطيعة مع النماذج الكلاسيكية سواء منها المرتبطة بالممارسات المالية او التجارية أو المهنية أو المرتبطة بأساليب التنظيم والحكامة ، إضافة إلى دخول مفاهيم "البلوك شين" وسيادة الفاعلين كأفراد أو مجموعات ساهموا في ظهور اقتصاد عالمي جديد أتى بصناعة غير مسبوقة لا من حيث وسائل إنتاجها أو نموذجها الاقتصادي أو حكامتها اللامركزية والمبنية على ذكاء أفراد مستقلين وذكاء مجموعات مؤثرة في كل مناحي حياة المجتمعات، في كل بقاع العالم الذي أصبح قرية صغيرة. هذا الاقتصاد الجديد الذي قلب كل الموازين هو اقتصاد ما يسمى بـ"اقتصاد صناع المحتوى /CRATOR CONTENU ECONOMY".
ظهور أدوات الذكاء الاصطناعي التوليدية يجبر الصحفيين اليوم على التفكير في الطرق التي يمكن أن تؤدي بها "الأتمتة" إلى تحسين وظائفهم أو التخلص منهم، بنظركَ هل مستقبل الصحافة يعتمدُ كليًا على تقنيات وبرامج الذكاء الاصطناعي؟
الذكاء الاصطناعي أصبح هو محور كل مظاهر الحياة البشرية بدون استثناء، ولقد تجاوزنا مرحلة تهديد الروبوت للشغل ولاستقرار البشر ، ودخلنا في عهد جديد يتميز بالتعاون ما بين الروبوت بآلياته الذكية وخوارزمياته وما بين البشر حيث أصبح يستخدم في تحسين حياة الإنسان وتسهيل مهامه وتسريع وثيرتها ودقتها في جو من التكامل البناء، ذي قيمة مضافة على مستوى جودة الأداء والمحافظة على البيئة، إننا على أبواب عهد جديد أطلق عليه خبراء الرقمنة جيل "أنسنة" كل مظاهر حياة الإنسان، حيث أصبح المقياس الأساس لكل اختراع علمي يقاس بما يقدمه الابتكار من خدمات للإنسان Human Centricity وما دام أن الإعلام والصحافة مبنية على عملية إنتاج المحتوى الإعلامي (الذي للأسف لم يصل في المغرب الى مرحلة التصنيع الحقيقي) فمن البديهي أن اقتصاد "صناع المحتوى" ينبغي أن يعتمد أساسا على الصحفيين بامتياز وهي فرصة ذهبية وليس عرقلة لتطور القطاع الإعلامي.
في الوقت الذي نجد فيه مضامين سمعية وبصرية لمواطن مؤثر تحظى بالتتبع من طرف ملايين المشاهدين والمنخرطين في قنواته، وصفحاته على الانترنيت، وتحقق له ثروة خيالية في الوقت الذي لم يسبق له أن درس الصحافة، لكنه استفاد من بيئة الأنترنيت للتعلم الذاتي وتقوية مهاراته الرقمية فقط، فالداء أصبح معروفا والدواء كذلك!
وبالمناسبة لابد من الإشادة بمبادرة وزارة التعليم التي أعلنت في شهر ابريل الحالي، نيتها في تحيين المواد التربوية في المدارس بمواد الذكاء الاصطناعي، وأشيد أيضا بعملية التحيين الجارية وغير المسبوقة للمنظومة التربوية للمعهد العالي للصحافة بالرباط، والتي هي في طور الإعداد.
بتقديركم، ما هو النموذج الاقتصادي الناجع للصحافة بالمغرب، في ظل سيادة الذكاء الاصطناعي في العالم؟
حتى لا أطيل الكلام وأعيد ما قلته، وما دام أن الداء أصبح معروفا والدواء أيضا، فإن العدو هو أمام (الصحفيين الشباب وغير الشباب والمسؤولين عن القطاع كذلك) والبحر من ورائهم، وليس لهم سوى الصدق والصبر ومعانقة الرقمنة والذكاء الاصطناعي، في إطار "ذكاء الأفراد" و"ذكاء المجموعات" معا، والخوض بجدية في "بيئة الانترنيت المجانية والشمولية " لكنها حاليا مسيطر عليها من طرف من لا خبرة مهنية لهم ، لكنهم رغم ذلك يجنون أرباحا طائلة عبر مضامين تافهة ولا أخلاقية في سوق الأنترنيت الذي أصبح يسوق أكثر فأكثر مضامين زائفة في غياب فاعلين مسلحين بالمهنية وأخلاقياتها.
وهذه هي كلمتي الأخيرة..
إنني نبتة لها جذور في مشتل الآداب الأصلية وفقه الشريعة، وساق في حديقة القانون والعلاقات الدولية، وغصون ترعرعت لمدة سبع سنوات في حديقة الصحافة بوكالة المغرب العربي للأنباء بزنقة اليمامة بالرباط، وفي فضاء الوظيفة العمومية لمدة اثنا عشر سنة بوزارة الاتصال بالمدينة ذاتها. إلا أن هذه النبتة استغلت من جهة تفتح زهور ثمارها، التي نقتلها رياح المغادرة الطوعية سنة 2005، لسبر أغوار ريادة الأعمال في مجالات تكنولوجيا المعلومات وصناعة المحتوى الرقمي، ومن جهة أخرى لتساهم باسم فدرالية تكنولوجيا المعلومات، في صياغة الكتاب الأبيض للصحافة الإلكترونية سنة 2013، الى جانب تمثيل المغرب في الأشغال التحضيرية للقمة العالمية لمجتمع المعلومات، واجتماعات خبراء من مشارب مختلفة، والذي كان له الفضل في مشاركتي في صياغة استراتيجية المغرب الرقمي 2009-2013.
علاقة بمساركم المهني، كيفَ تنظرونَ إلى وضعية المقاولة الإعلامية بالمغرب؟
في الحقيقة، أنا مدين بتوجه مساري المهني نحو مجال التحول الرقمي أولا لوكالة المغرب العربي للأنباء التي تدربت فيها لمدة سبع سنوات، على خبايا وخوارزميات معالجة قصاصات الأخبار الوطنية والدولية، والتعامل بمهنية مع الأولويات والمقدسات والممنوعات. كما أن الوكالة منحتني فرصة العمر لاستكمال التكوين في شعبة ماستر علوم الإعلام الذي غير مجرى حياتي الأكاديمية، في الوقت الأنسب، من قانون وسياسة وعلاقات دولية إلى عالم التخصص في الرقمنة والأرشيف الصحفي ومعالجة البيانات"Data Scientist "، كما أنني من ناحية ثانية مدين لوزارة الاتصال التي علمتني طيلة 12 سنة بروتوكولات العلاقات العامة والتعامل مع الصحفيين ومع أجهزة الصحافة الوطنية والدولية و المؤسسات العمومية والحزبية والنقابية والمنظمات الدولية، لكن كانت فرصة المغادرة الطوعية سنة 2005 فرصة ذهبية للانفتاح على القطاع الخاص وريادة الأعمال في وقت أوصت فيه القمة العالمية لمجتمع المعلومات (2003 خطة عمل جنيف و2005 أجندة تونس)- بأن السياسات العمومية والاقتصادية والاجتماعية قد انتهى عصر إعدادها الانفرادي من طرف المؤسسات العمومية فقط بل شرعت مبدأ التشارك مع القطاع الخاص والمجتمع المدني والمنظمات الدولية . كل هذه التعلمات والتجارب جعلتني أنظر الى واقع المقاولات الصحفية نظرة مزدوجة نظرة مهنية ونظرة تكنولوجية ولكل مقام مقال، تعيش اليوم المقاولة الصحفية في زمن قلب فيه التحول الرقمي واقع المقاولة الصحفية رأسا على عقب حيث تغيرت الممارسات الصحفية وظهرت مهن جديدة وفاعلون جدد، ونماذج اقتصادية لم تعرفها المقاولات الصحفية من قبل وأساليب حكامة غير مسبوقة، ورغم صدور القانون الجديد لتقنين مجال الصحافة والنشر حاول محاربة كثرة المواقع الإلكترونية التي تجاوز عدده الالفي موقع سنة 2012.
وقد جاءت هذه المحاولات للملائمة القانونية للمقاولات الصحفية بعد مبادرة إعداد "الكتاب الأبيض للصحافة الإلكترونية" الذي تم إعداده سنة 2012 تحت إشراف وزارة الاتصال، لكن بإشراك خبراء ممثلين "لكل الجهات المعنية" وفق توصيات القمة العالمية المذكورة (من قطاع خاص ونقابة الصحافة ووزارتي الاعلام والوظيفة العمومية ومكتب حقوق المؤلف – حيث كان لي شرف المشاركة في إعداده باسم فدرالية تكنولوجيا المعلوماتAPEBI.org.ma) ).
وأقول إن توصيات هذا "الكتاب الأبيض للصحافة الإلكترونية" كانت سابقة لزمانها ولم تطبق لحد الآن وهي ماتزال صالحة ليومنا هذا. لإنقاذ هذه المقاولات الصحفية من الأزمة الخانقة التي تعيشها في ظل أكبر مؤامرة صمت عايشتها في حياتي المهنية. وذلك رغم الاعتراف الرسمي بالأزمة التي تعيشها، والمصرح بها على لسان وزراء سابقين ومسؤولين نقابيين وجمعويين ومسؤولين كبار عن مقاولات ومؤسسات صحفية وطنية كبرى. أخرها أعلن عنه بتصريحات رسمية (رفقته روابط تسجيلات فيديو) بمناسبة اليوم العالمي لحرية الصحافة 2 يونيو 2022.
تعد تقنية سلسلة الكتل "بلوك تشين" منَ التقنيات الهامة في مجال حكامة بيئة الأنترنيت حاليا، برأيكم هل يمكن تطبيق فلسفة هذه التقنية في ظل الإكراهات التي يعج بها المشهد الإعلامي والصحافي ببلادنا؟
لا تقوم هذه التقنية، على أساس فلسفي، بل تستمد جذورها من ممارسات أجدادنا، لكونها مبنية على "ذكاء الأفراد والمجموعات" وعلى أساس إلغاء "حلقات البنيات الوسيطة" التي تقوم عليها كل العلاقات الهرمية للمعاملات بين مختلف فئات المجتمع التي تخضع لتدرج السلطة للقيام بمختلف العمليات التي تسير في اتجاه واحد، الشيء الذي يفتح المجال لاستغلال السلطة الهرمية وحجب بعض العمليات أو توقيفها أو تغيير مسارها ولا يمكن الاطلاع الا من طرف من هو أعلى درجة مباشرة.
في حين أن حكامة العمليات المبنية على البلوك تشين أي "كتل متسلسلة وموزعة في كل الاتجاهات بشفافية تامة ومسؤولية تضامنية مبنية على التصديقات الجماعية بصفة تفاعلية وآنية"، مستمدة من حكامة التعاونيات التي اخترعها أجدادنا وأغفلناها لكن حاليا أصبحت هي أساس الاقتصاد الاجتماعي والتضامني الذي تتبناه المقاولات الصينية والتي يحميها ليومنا هذا من التضخم والأزمة الاقتصادية الخانقة ومن التنافس المفلس. وهذا ما أصبح يسمى بلوك تشين، وهي التكنولوجيا التي أحدثت ثورة نوعية في مجال العملة الرقمية التي تدار عملياتها بدون وساطة الأبناك وتتم مباشرة بين الأفراد والمؤسسات، وتحارب من كل جانب لما يشكله انتشارها من خطر على مستقبل الأبناك التي تتذرع بحجة كون العملة الرقمية تسهل تبييض الأموال. كأن الأبناك بريئة تماما من هذه التهمة! إن نجاعة هذه الحكامة في قطاع الصحافة يكمن في كونها الحل المثالي ليتلاءم واقع الصحافة مع واقع بيئة الأنترنيت.
إذن، كيفَ يمكن لقطاعي الصحافة والنشر اليوم الاستفادة منَ هذه التقنية؟
الواقع، أنه يمكن لقطاعي الصحافة والنشر اليوم الاستفادة منَ تقنية "البلوك تشين نظريا"، لكن من الناحية العملية الأمر يقتضي توفر متطلبات منطقية وضرورية، على سبيل المثال، في مشاريع التعمير لا يمكن بناء مجموعة سكنية على أنقاض بنيات عشوائية متهالكة لم تحترم المعايير الأساسية للتجهيز والبناء، وفي قطاع الصحافة نفس الشيء، هناك معايير أساسية اتفق عليها مند 2013، وهي توصيات الكتاب الأبيض للصحافة الرقمية المذكور أعلاه والذي حدد خمس تحديات للأسف لم تحترم كلها ليومنا هذا. لذا في اعتقادي لا يمكن إنجاح استفادة قطاع الصحافة في المغرب من تقنية البلوك تشين كأساس لحكامة المقاولات الصحفية الناجحة، إلا أذا توفرت أجوبة لهذه التحديات الأربعة، وهي:
- التأهيل التكنولوجي للقطاع الإعلامي؛
- تطوير المحتوى الرقمي للصحافة؛
- دعم أخلاقيات المهنة؛
- دعم التكوين الإعلامي؛
- وأخيرا تطوير المقاولات الصحافية وفق نماذج اقتصادية ابتكارية.
- الكاتب العام للنقابة الوطنية للصحافة المغربية، عبد الله البقالي، الذي صرح بجرأته المعهودة أن كل النماذج الاقتصادية للمقاولات الصحفية بالمغرب فشلت لحد الآن؛
- نور الدين مفتاح رئيس الفيدرالية المغربية لناشري الصحف الذي صرح بأن ما وصلت إليه الصحافة اليوم هو أسوء سيناريو لم نكن نتوقعه؛
- مصطفى ملوك مدير سابق في القناة الثانية المغربية، الذي صرح بأن هناك منظومة إعلامية عالمية يتم تهيئتها ولا مكان لنا فيها؛
- نبيل بنعبد الله وزير إعلام سابق ورئيس حزب التقدم والاشتراكية: الذي صرح بأن السياسة والإعلام دخلتا مرحلة "مبهمة وغامضة"؛
- وفي مجال التكوين مازالت المنظومة التربوية تسارع الزمن الأكاديمي البطيء من أجل ملاءمة المضامين التربوية مع متطلبات بيئة الأنترنيت وخصوصيات التكوين والتدريب وتقوية المهارات الرقمية.
تقول تقارير حديثة، إن مجال صناعة الإعلام والترفيه سوف يدار من قبل الشركات والمؤسسات والأشخاص الذين ليس لديهم أي معرفة بمهنة الإعلام مستقبلا، في اتجاه تقرؤون مثل هذه التقارير ذات الصبغة التنبؤية بمستقبل الإعلام والصحافة؟
الواقع الجديد أن مجال صناعة الإعلام كان منذ نشأته مرتبطا بسلطة النخبة السياسة والتي عايشنا ارتباطها الوثيق بسلطة القوى الضاغطة لنخبة المال والأعمال، لكن حاليا نلاحظ أن صناعة الإعلام أصبحت مع العولمة ومنصات التواصل الاجتماعي التي كسرت الحدود الجغرافية أصبحت تواجه دخول فاعلين ومؤثرين جدد ومهن جديدة ومتطلبات غير مسبوقة فرضت نماذج اقتصادية ابتكارية شكلت قطيعة مع النماذج الكلاسيكية سواء منها المرتبطة بالممارسات المالية او التجارية أو المهنية أو المرتبطة بأساليب التنظيم والحكامة ، إضافة إلى دخول مفاهيم "البلوك شين" وسيادة الفاعلين كأفراد أو مجموعات ساهموا في ظهور اقتصاد عالمي جديد أتى بصناعة غير مسبوقة لا من حيث وسائل إنتاجها أو نموذجها الاقتصادي أو حكامتها اللامركزية والمبنية على ذكاء أفراد مستقلين وذكاء مجموعات مؤثرة في كل مناحي حياة المجتمعات، في كل بقاع العالم الذي أصبح قرية صغيرة. هذا الاقتصاد الجديد الذي قلب كل الموازين هو اقتصاد ما يسمى بـ"اقتصاد صناع المحتوى /CRATOR CONTENU ECONOMY".
ظهور أدوات الذكاء الاصطناعي التوليدية يجبر الصحفيين اليوم على التفكير في الطرق التي يمكن أن تؤدي بها "الأتمتة" إلى تحسين وظائفهم أو التخلص منهم، بنظركَ هل مستقبل الصحافة يعتمدُ كليًا على تقنيات وبرامج الذكاء الاصطناعي؟
الذكاء الاصطناعي أصبح هو محور كل مظاهر الحياة البشرية بدون استثناء، ولقد تجاوزنا مرحلة تهديد الروبوت للشغل ولاستقرار البشر ، ودخلنا في عهد جديد يتميز بالتعاون ما بين الروبوت بآلياته الذكية وخوارزمياته وما بين البشر حيث أصبح يستخدم في تحسين حياة الإنسان وتسهيل مهامه وتسريع وثيرتها ودقتها في جو من التكامل البناء، ذي قيمة مضافة على مستوى جودة الأداء والمحافظة على البيئة، إننا على أبواب عهد جديد أطلق عليه خبراء الرقمنة جيل "أنسنة" كل مظاهر حياة الإنسان، حيث أصبح المقياس الأساس لكل اختراع علمي يقاس بما يقدمه الابتكار من خدمات للإنسان Human Centricity وما دام أن الإعلام والصحافة مبنية على عملية إنتاج المحتوى الإعلامي (الذي للأسف لم يصل في المغرب الى مرحلة التصنيع الحقيقي) فمن البديهي أن اقتصاد "صناع المحتوى" ينبغي أن يعتمد أساسا على الصحفيين بامتياز وهي فرصة ذهبية وليس عرقلة لتطور القطاع الإعلامي.
في الوقت الذي نجد فيه مضامين سمعية وبصرية لمواطن مؤثر تحظى بالتتبع من طرف ملايين المشاهدين والمنخرطين في قنواته، وصفحاته على الانترنيت، وتحقق له ثروة خيالية في الوقت الذي لم يسبق له أن درس الصحافة، لكنه استفاد من بيئة الأنترنيت للتعلم الذاتي وتقوية مهاراته الرقمية فقط، فالداء أصبح معروفا والدواء كذلك!
وبالمناسبة لابد من الإشادة بمبادرة وزارة التعليم التي أعلنت في شهر ابريل الحالي، نيتها في تحيين المواد التربوية في المدارس بمواد الذكاء الاصطناعي، وأشيد أيضا بعملية التحيين الجارية وغير المسبوقة للمنظومة التربوية للمعهد العالي للصحافة بالرباط، والتي هي في طور الإعداد.
بتقديركم، ما هو النموذج الاقتصادي الناجع للصحافة بالمغرب، في ظل سيادة الذكاء الاصطناعي في العالم؟
حتى لا أطيل الكلام وأعيد ما قلته، وما دام أن الداء أصبح معروفا والدواء أيضا، فإن العدو هو أمام (الصحفيين الشباب وغير الشباب والمسؤولين عن القطاع كذلك) والبحر من ورائهم، وليس لهم سوى الصدق والصبر ومعانقة الرقمنة والذكاء الاصطناعي، في إطار "ذكاء الأفراد" و"ذكاء المجموعات" معا، والخوض بجدية في "بيئة الانترنيت المجانية والشمولية " لكنها حاليا مسيطر عليها من طرف من لا خبرة مهنية لهم ، لكنهم رغم ذلك يجنون أرباحا طائلة عبر مضامين تافهة ولا أخلاقية في سوق الأنترنيت الذي أصبح يسوق أكثر فأكثر مضامين زائفة في غياب فاعلين مسلحين بالمهنية وأخلاقياتها.
وهذه هي كلمتي الأخيرة..