Quantcast
2022 ديسمبر 11 - تم تعديله في [التاريخ]

لا تكفي المؤتمرات لإعادة الحياة للغة تحتضر


العلم الإلكترونية - بقلم عبد الله البقالي

لم نكن في حاجة إلى اعتراف صريح من الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون للتأكد من التراجع المستمر والمخيف للغة الفرنسية في المشهد اللغوي العالمي، وفي الاستعمالات اللغوية العالمية في مختلف مناحي الحياة، خصوصا في العلوم والتكنولوجيا والاقتصاد والبحث العلمي، لأن جميع المؤشرات المتعلقة بقياس انتشار اللغات واستعمالاتها في العالم تكشف عن هذا التراجع.
 
 وإذا كانت منطقة المغرب العربي مثلا، تعتبر قلعة للغة الفرنسية إضافة إلى بعض المستعمرات الفرنسية السابقة، خصوصا في إفريقيا، فإن الرئيس الفرنسي ماكرون، يقر بعظمة لسانه، وهو يخاطب القمة 18 للمنظمة الفرانكوفونية التي انعقدت قبل أيام من اليوم بجزيرة جربة التونسية، بأن الفرانكوفونية " تتعرض إلى انتكاسات حقيقية، ففي البلدان المغاربية تستعمل الفرنسية بنسبة أقل مما كانت عليه قبل عشرين أو ثلاثين سنة، بسبب ظهور أشكال من المقاومة شبه السياسية، إلى جانب استخدام اللغة الإنجليزية مع صعوبة الوصول إلى الكتب الفرنسية بأسعار معقولة "ولم ينس الرجل الأول في فرنسا وجوب الدعوة " إلى استعادة جاذبية اللغة الفرنسية مرة أخرى، من خلال القول " إنه يمكننا التحدث بها كلغة تسهل التجارة مثلا ".
 
ماكرون يبكي على الأطلال على لغته الأم التي سادت لفترات طويلة في العالم، ليس لقابليتها ولا لقدرتها على تطويع العلوم والتقنيات الحديثة والبحث العلمي بصفة عامة، لكنها سادت في مرحلة من مراحل تاريخ البشرية بسبب القوة الاستعمارية الفرنسية، وبذلك فانتشار اللغة الفرنسية في العديد من أقطار العالم تحقق على جثث ملايين القتلى من المدنيين وعلى تدمير حضارات وقيم، وعلى استنزاف وسرقة ثروات الشعوب، كان استعمارا عسكريا وفر التربة المباشرة للاستعمار الثقافي الذي تجسد في فرض اعتماد اللغة الفرنسية في التعليم وفي شتى مناحي الحياة اليومية في مستعمرات فرنسا .
 
حاليا حينما توارت الظاهرة الاستعمارية كعامل حاسم في انتشار اللغة الفرنسية، وبرزت عوامل علمية وتقنية أضحت حاسمة في قياس قوة اللغات، ومدى قدرتها على مسايرة التطورات العلمية والتقنية المستجدة في العالم، وجدت اللغة الفرنسية نفسها مفتقدة إلى هذه العوامل الجديدة، وبالتالي كان من الطبيعي أن تتوارى إلى الخلف، هذا ما يفسر اليوم الوضعية المتخلفة للغة الفرنسية بين لغات العالم.
 
وفي هذا السياق أجمعت معظم الأوساط المتخصصة في قياس انتشار اللغات في العالم على الإقرار باستمرار لغة موليير في التراجع أمام زحف لغات أخرى، وهي اليوم في خانة اللغة التي تحتل الرتبة التاسعة ما بين لغات الكون الرئيسية، بنسبة أشخاص يتحدثون بها لا تتجاوز 3 بالمائة من سكان العالم، وهي بذلك تأتي بعد اللغة البنغالية مثلا التي تتحدث بها ألسنة أكثر من 3,19 بالمائة من سكان العالم واللغة البرتغالية ب 3,26 بالمائة من المتحدثين بها من سكان الكون، بل وتبتعد عنها اللغة العربية بأربع مراتب بنسبة 6,25 بالمائة من سكان العالم .
 
ومن معالم تخلف هذه اللغة في الوقت الراهن أنها لم تقدر على احتلال المرتبة الأولى حتى داخل فرنسا نفسها فيما يتعلق بالبحث العلمي، وفي معدل الكلمات والمصطلحات الجديدة التي يفرض التطور العلمي والتقني استحداثها في كل لغة، حيث تتفوق عليها اللغة الانجليزية بمساحات ضوئية، بل وجدت نفسها في وضعية جد متأخرة في المحافل الدولية.
 
وتكفي الإشارة في هذا الصدد، إلى أن الرئيس الفرنسي نفسه اضطر الى التحدث باللغة الانكليزية في قمة العشرين التي انعقدت مؤخرا، لأنه لو تحدث باللغة التي يدعو إلى استعادة توهجها، ما كان أحد من الحاضرين ليفهم ما كان يقوله.
 
ويبدو أن قصر الإليزي يصر على إعادة بريق لغته الوطنية من بوابة منظمة غريبة الهوية و الأطوار، إذ أنها المنظمة الوحيدة في العالم التي تعتمد مكون اللغة المكتسبة (وليس اللغة الأصلية) في محاولة لحشد وتوحيد الجهود، لتحقيق أهداف ليست واضحة ولا منطقية، وهي مجرد آلية من آليات فرنسا، التي تؤكد أن باريس لا تزال تحن إلى عهود استعمارية بائدة لإعادة إنتاج الماضي خصوصا، وتستعملها كأداة في اتجاه إعادة الهيمنة اللغوية والثقافية، وفرض الاستلاب القيمي والحضاري، ولا بأس من استخدام رزمة من الإغراءات المالية، التي تستعملها الرئاسة الفرنسية توابل لوجبة لم تعد بنفس مواصفات الماضي، بهدف تطويع كثير من الدول والشعوب المغلوبة على أمرها .
 
والواضح أن اللغة الفرنسية افتقدت في الظروف الراهنة إلى العوامل التاريخية التي مكنتها في فترة من فترات التاريخ البشري من السيادة في بعض مناطق العالم، وتأكد اليوم أن هذه اللغة دون مساعدة عوامل خارجية، عاجزة على أن تأخذ لها موقعا متقدما بين اللغات العالمية، الأكثر انتشارا وسيادة في العالم، وهكذا فإن عجزها عن الملاءمة مع احتياجات الاقتصاد العالمي المعاصر وعلى شروط البحث العلمي والتقني، وعلى ابتكار الكلمات والمصطلحات بهدف إغناء قواميسها، كلها عوامل تفسر الانتكاسة المتواصلة للغة الفرنسية، وهي القضية التي مثلت على الدوام هاجسا موقتا للحكومات الفرنسية المتعاقبة، ولهذا الغرض ارتأت باريس إنشاء منظمة تقتصر العضوية فيها على الدول الناطقة باللغة الفرنسية، لخدمة أهداف معينة، تبدأ بتحصين اللغة الفرنسية في الدول الناطقة بها أولا، ومن ثمة البحث عن مساحات أخرى للانتظار والتمدد، وهي الرهانات التي تراكم فيها اللغة الفرنسية الانتكاسات المتتالية .

              



في نفس الركن
< >

الاثنين 18 نونبر 2024 - 12:06 تزامن بدلالات وخلفيات ورسائل
















MyMeteo



Facebook
YouTube
Newsletter
Rss

الاشتراك بالرسالة الاخبارية
أدخل بريدك الإلكتروني للتوصل بآخر الأخبار