Quantcast
2022 أكتوبر 12 - تم تعديله في [التاريخ]

عن مجتمع الخدمات والمقاولة الذاتية


العلم الإلكترونية - بقلم أنس الشعرة

ليسَ هينًا، أن ترى العالم يتحولَ بينَ نظريكَ بسرعةٍ، تكادُ لا تجد لها تفسيرًا دقيقًا، أكثر الأوصاف مطابقة لحياتنا اليوم، هو وصف السرعة، السرعة هي العلامة المسجلة باسم الألفية الثالثة، ولعل طبيعة حياتنا المعاصرة ونظامها الذي أضحى يختزل الحياة في البنى المادية، اختزلَ الإنسان، حتى استحالت قيمه ومصادره الذاتية، نماطًا سائًلا مرتهنا إلى وتيرة السرعة ومتطلباتها المادية.

إن الحياة النيوليبرالية، بوصفها شكلا من أشكال الطفرة، التي لحقت الرأسمالية، أتاحت الفرصة لأي كان المشاركة في صناعة الرأسمال. فالحياة النيوليبرالية تتطلبُ سيلا متدفقا من المال، وبالتالي؛ ما يشكل أنماط الإنتاج المعاصر، في حياتنا اليومية، ليسَ المجتمع التعاوني، كما كان يتصور ذلكَ أنطونيو نيغري، بل كل ما يترك أثرًا لتلك التدفقات المالية. وهنا يتبين لنا أنّ حقيقة النمط الاجتماعي المعاصر بحد ذاته، أمسى يتولدُ من كيانات ذاتية، فافي نظام إنتاج كهذا صار كل إنسان معنيا بامتلاك وسائل إنتاجه. نحنُ الآن أمامَ نمذجة سوسيو-اقتصادية، لا ترتكز على تقنيات الصراع في سياق تنافسي، وإنما أمام جمود بنيوي يستقر عنده كل نظام.
 
أمامَ هذا النمط منَ العيش اليومي، تحول المجتمع إلى سوق كبيرة من الخدمات والمقاولة الذاتية، يتوسل تسريع نمط العيش وتحقيق الرفاهية. من يضمن امتيازات الخدمة بمعايير الجودة العالية، ويحقق شروط المقاولة الذاتية، يضمن النجاح في مجتمعنا، وبالتالي فهو إنسان ناجح. الشيء الذي يجعل النيوليبرالية متفوقة على الدوام، لأنها متحللة من كل مسؤولية، والربح والخسارة، يرتهنان أساسًا إلى كيان ذاتي فقط، إلى خضوع فردي ومجتمعي بالدرجة الأولى، ومتحللة أيضًا من تبعات التضامنات العضوية الواعية والغير الواعية في المجتمع.

لم يعد يهم مجتمعنا اليوم إنتاج المعنى والقيم والإيديولوجية ... الخ، بل وجّه كل سعيه إلى إنتاج التدفقات المادية، وتحفيزها وإبرازها بأي شكل كان، ولو ألقينا نظرة على مواقع التواصل الاجتماعي، سنجدها مكانا لإبراز أشكال الحياة النيوليبرالية، وتطوير نمطيتها في سبيل مزيد من إنتاج التدفق المادي، والمفارقة كما يرصدها الفيلسوف الألماني بيونغ هان، أن "مواقع التواصل الاجتماعي تنتج بانوراما رقمية، يمكنُ من خلالها أن يستغل مبدأ الرقابة الاجتماعية أسوء استغلال"، إنه "بانوبتيكوم" جديد، لا يحفز على إنتاج القيم بقدر ما يضعكَ آنًا في قبضة الأخ الأكبر، وكل ما يسمحُ به هو تمرير تلكَ التدفقات التي تذر وتنتجُ الرأسمال بأي شكل من الأشكال؛ فالمبدأ واضح: بقدر ما تنتج تستهلك، وبقدر ما تستهلك تنتج، جدلية مترابطة وممتدة، امتدادا سيكولوجيًا، بالدرجة الأولى، وثانيا على مستوى النظام السوسيو-اقتصادي في العيش.

من ينتقد التفاهة ومنتجيها اليوم، لايدرك حقيقة واقعة أمامه، وهي أنّ نظم الدولة، وأجهزتها ومؤسساتها، تماهت معَ أشكال الحياة النيوليبرالية، وتسمح بإنتاج ذلكَ ليسَ من باب إنتاج المعنى، أو في سياق تنافسي، وإنما من أجل إنتاج وتقديم خدمة يترتب عنها، استمرار تدفق المال، استمرارية من أجل ضمان غزارة الإنتاج وتسارعه، هذا هو الشرط والمعيار المُحدّد، لارتياد آفاق التدفقات المادية.

تسمح هذه التدفقات المادية، ببناء نمط حياة مُستغرق في عالم سيكولوجي طوبوي، عالم يلفظ إنتاج المعنى باسمِ أوهام مجتمع الخدمة والمقاولة الذاتية، والربح السريع، ولا ضير في أن نرى أجيالاً فتية، تقضي سحابةَ يومها في تعلم أنماط الحياة النيوليبرالية، التي هي بالأساس صور لإفراغ الحياة من معناها، ولا ضيرَ أيضًا أن نجد الأجيالَ ذاتها، ترى أنّ المدرسة مضيعة للوقت، وأن معنى الحياة أساسًا يتركز في تطوير أنماط الحياة النيوليبرالية التي تذر مزيدًا ومزيدًا من التدفقات المادية. إن النماذج التي تطل علينا اليوم ليست شيئا غريبًا عن جسد مجتمعنا، بل هي صورة جيل، أفرغَ من المعنى والقيمة والإيديولوجية.

              

















MyMeteo



Facebook
YouTube
Newsletter
Rss

الاشتراك بالرسالة الاخبارية
أدخل بريدك الإلكتروني للتوصل بآخر الأخبار