على مدى 15 شهرا شنت تل أبيب بدعم تسليحي ومادي واستخباري وحماية دبلوماسية وسياسية من جانب واشنطن ولندن وبرلين أساسا وكذلك تحالف من دول الناتو وخارجه، حربا على قطاع غزة اتهمت المحكمة الجنائية الدولية فيها وبتاريخ 21 نوفمبر 2024 قادة من حكومة إسرائيل بإرتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية.
هدف تلك الحرب كان وحسب رئيس الحكومة نتنياهو تصفية حركة حماس سياسيا وعسكريا وضمان عدم تشكيل قطاع غزة وسكانه (2.34 مليون نسمة) أي تهديد لإسرائيل، الهدف الذي لم يتحدث عنه نتنياهو بصراحة كان إخلاء قطاع غزة من غالبية سكانه وتهجيرهم إلى شبه جزيرة سيناء المصرية. في أعقاب تراكم فشل الجيش الإسرائيلي بعد الأسابيع العشرة الأولى للحرب قدر مجلس الحرب الإسرائيلي أنه بزيادة معاناة سكان القطاع يمكن تأليبهم على حماس وإسقاطها من الداخل ولكن هذا المخطط سقط تماما.
بعد كل هذه الأشهر لم يحقق ساسة حكومة تل أبيب بإعترافهم مع حلفائهم هذه الأهداف رغم قتلهم أكثر من 46 ألف فلسطيني غالبيتهم العظمى من الأطفال والنساء والشيوخ.
في اليوم 471 للحرب الإسرائيلية على قطاع غزة وفي الساعة 11:15 بالتوقيت المحلي بتأخير قدره ثلاث ساعات تقريبا دخل اتفاق وقف إطلاق النار بين تل أبيب وحركة حماس بصفتها رأس حربة المقاومة الفلسطينية في غزة حيز التنفيذ، وبعد ذلك وفي ساحة السرايا وسط مدينة غزة وحوالي الساعة 4 عصرا بالتوقيت المحلي تمت العملية الأولى لتسليم الأسرى "ثلاثة إسرائيليين" تحت إشراف منظمة الصليب الحمر الدولي، التي نقلت عن حكومة نتنياهو أنه سيتم "إطلاق سراح 4 أسرى إسرائيليين أحياء آخرين خلال 7 أيام".
عملية التسليم تمت بحضور جماهير غفيرة من الغزيين كانت تهتف بشعارات النصر وبحضور المئات من عناصر كتائب القسام الذين ظهروا بكامل عدتهم وأسلحتهم ومركباتهم وسط ساحة السرايا التي كانت تل أبيب قد أعلنت عدة مرات خلال الأشهر الخمسة عشر من 7 أكتوبر 2023 وحتى 19 يناير 2025 سيطرتها عليها وتطهيرها من المقاومة الفلسطينية.
أول الملاحظات التي سجلها المراقبون الأجانب هي أن مقاتلي القسام كانوا على عكس ما تروج له إسرائيل ووسائل الإعلام الغربية في أوج قوتهم وبأسلحة جديدة ومركبات وسيارات دفع رباعي جديدة.
من جانبها أطلقت إسرائيل يوم الأحد كذلك 90 من الأسرى الفلسطينيين 76 أسيرا من الضفة الغربية و14 من القدس الشرقية، بينهم 69 امرأة و21 طفلا.
الاتفاق في مرحلته الأولى، يضمن إطلاق حماس سراح 33 من الإسرائيليين من بين 98 أحياء. فيما تفرج إسرائيل خلال تلك المرحلة عن حوالي ألفي أسير فلسطيني لديها، من بينهم 737 من الذكور والإناث والقصر، بعضهم مدانون بتنفيذ هجمات مميتة ضد إسرائيليين. كما تشمل 1167 فلسطينيا من غزة احتجزتهم إسرائيل منذ بداية الحرب الحالية.
المرحلة الأولى من الاتفاق، والتي تصل مدتها إلى 42 يوما، تنص حسب مصادر واشنطن وتل أبيب "وقف إطلاق نار مؤقت". يسمح الاتفاق بدخول 600 شاحنة تحمل مساعدات إلى غزة يوميا، بالإضافة إلى إجراء مفاوضات حول سحب القوات الإسرائيلية من الأراضي وإنهاء الحرب بشكل دائم.
في واشنطن ووفق مسؤول انتقالي تحدث لشبكة "إن بي سي" يعتزم مبعوث الرئيس المنتخب دونالد ترامب إلى الشرق الأوسط، ستيف ويتكوف، زيارة قطاع غزة لضمان الحفاظ على اتفاق وقف إطلاق النار الذي تقول مصادر مختلفة أن ترامب فرضه على نتنياهو.
وفي إشارة إلى مدى هشاشة اتفاق وقف إطلاق النار، يخطط ويتكوف أيضا للتواجد بشكل شبه دائم في المنطقة على مدى الأسابيع والأشهر المقبلة، وفق ما نقلت الشبكة عن المسؤول الانتقالي..
وسيعمل ويتكوف على حل المشاكل التي قد تندلع على الأرض والتي يعتقد أنها قد تؤدي إلى انهيار الاتفاق ووقف إطلاق سراح الأسرى المحتجزين لدى حماس في أي لحظة، وفقا للمسؤول.
وأضاف المسؤول للشبكة: "يجب أن تكون على رأس الأمر، ومستعدا لإخماد أي مشكلة إذا حدثت".
في هذه الأثناء استقال أعضاء حزب "العظمة اليهودية" من الحكومة الإسرائيلية، يوم الأحد، وعلى رأسهم وزير الأمن القومي المتشدد إيتمار بن غفير، بسبب اعتراضهم على اتفاق وقف إطلاق النار، الذي تم التوصل إليه مع حركة حماس الفلسطينية.
ونشر الحزب بيانا، أشار فيه إلى استقالات بن غفير، ووزير التراث عميحاي إلياهو، ووزير النقب والجليل يتسحاق واسرلاف، من الحكومة الإسرائيلية، تم بسبب ما وصفوه بـ"الاتفاق المستسلم" مع حماس.
واعتبر الحزب أن الاتفاق "يتضمن إطلاق سراح مئات المعتقلين والسجناء الفلسطينيين، من بينهم من أدينوا بقتل إسرائيليين، مع السماح لبعضهم بالعودة إلى القدس والضفة الغربية".
وجاء في بيان الحزب أن الاتفاق يمثل "تنازلا عن إنجازات الجيش الإسرائيلي في الحرب، وانسحابا لقوات الجيش من قطاع غزة، ووقفا للقتال"، معتبرا أن ذلك يعد "استسلاما لحماس" و"صفقة مخزية وملئ بالثغرات".
كما انتقد انسحاب الجيش الإسرائيلي من محور فيلادلفيا على الحدود بين غزة ومصر، معتبرا أن ذلك يمثل "تنازلًا خطيرا".
وحذر بن غفير من أن إطلاق سراح المعتقلين والسجناء الفلسطينيين يمثل "خطرا أمنيا كبيرا"، قائلا إن الاتفاق الحالي يبعث برسالة إلى أن تكتيك حماس يسفر عن تحقيق المكاسب"، مضيفا أن "إسرائيل قد تكون بصدد إطلاق سراح السنوار الجديد".
وأشار الوزير إلى أنه حاول إقناع وزير المالية، بتسلئيل سموتريتش، بالانضمام إليه في رفض الاتفاق، لكنه لم ينجح في ذلك وأنه دعا كذلك نتنياهو إلى التواصل مع الرئيس الأمريكي المنتخب، دونالد ترامب، لإيجاد "بدائل أفضل" لهذا الاتفاق.
يشار إلى أن خروج حزب القوة اليهودية من حكومة نتنياهو لا يعني انهيار الائتلاف الحكومي ولكن رحيل بن غفير يزعزع استقرار الائتلاف.
المحللون والخبراء والسياسيون منقسمون حول أبعاد اتفاق وقف إطلاق النار ومن كسب ومن خسر وما هي أخطار استئناف القتال ليس في غزة وحدها بل في كل إقليم الشرق الأوسط المركز وسط حركة توصف بالتكتونية للعلاقات والتوازنات الدولية.
انتصار أم هزيمة؟
تختلف وجهات النظر في إسرائيل بين من يرى أن الجيش حقق هدفه وتمكن من القضاء على قدرات "حماس"، وبين من يعتبر أن إسرائيل فشلت وهزمت.
رأت "القناة 12" أن "كتائب حماس احتفظت بقوتها وما يجري الآن يؤكد وجودها في كل مكان وسيطرتها على القطاع رغم الحرب الطويلة".
أما معلق الشؤون العربية في قناة "i24News" العبرية تسفي يحزقالي، فصرح لصحيفة "معاريف" قائلا: "هناك في غزة بالفعل احتفالات فرح. الأمر الأصعب بالنسبة لي هذا الصباح هو رؤية هذه المشاهد. النخبة عادت على المركبات، تلك المركبات التي ذبحتنا، هؤلاء الأشخاص الذين ذبحونا".
وأضاف: "15 شهرا من القتال ولم ننجح في تغيير معادلات الحرب في غزة"، مردفا: "في الواقع أسأل نفسي، ماذا فعلنا هنا خلال عام وخمسة أشهر؟ دمرنا العديد من المنازل، وقدمنا خيرة أبنائنا، وفي النهاية النتيجة هي نفس الصيغ. حماس فرحة، المساعدات تدخل، والنخبة تعود".
الصحفي الإسرائيلي يانون يتاح قال: "آخر عملية يتولى بن غفير مسؤوليتها كوزير للأمن القومي هي الإشراف على إطلاق سراح الأسرى الفلسطينيين من السجن".
من جهته، صرح وزير المالية الإسرائيلي بتسلئيل سموتريتش قائلا: "أنا أعارض هذه الصفقة بكل ذرة من كياني وأعتقد أنها تشكل خطرا على دولة إسرائيل وأشعر بالفرح لكل أخ وأخت يعود إلى المنزل من أسر حماس".
واعتبر غيورا آيلاند، رئيس مجلس الأمن القومي الإسرائيلي سابقا وصاحب "خطة الجنرالات"، في تعليقه على اتفاق وقف إطلاق النار بين "حماس" وتل أبيب، أن "حماس" انتصرت وإسرائيل فشلت فشلا مدويا.
رئيس الموساد السابق، تامير باردو، أعاد خلال حديثه إلى القناة 12 العبرية، التذكير بحرب فيتنام في العاصمة سايغون، وقال: "في اليوم الأخير من الحرب، كان هناك ضابطان برتبة عقيد، أمريكي وآخر من شمالي الفيتنام. حينها قال الأمريكي للضابط الفيتنامي: "في كل الحرب، نحن لم نخسر في معركة واحدة"، ليرد عليه الأخير: "قد يكون هذا صحيحا، لكن في صباح يوم غد، أنتم ستغادرون ونحن سنبقى".
وأكد باردو أن "الحرب لا ينتصر بها فقط في ميدان المعركة. الميدان هو الجزء الأول منها، لكن الجزء الأساسي هو نهايتها".
ولفت إلى أن "حكومة إسرائيل تصر على عدم إعلان كيفية إنهاء الحرب، الأمر الذي أضر بالجيش، وأضر بإجراءات القتال التابعة للجيش، وتسبب بوقوع خسائر كبيرة لنا، لأن إسرائيل لم تقل كيف تريد أن تنهي الحرب".
نتنياهو والعودة للحرب
رئيس الحكومة الإسرائيلية من جانبه ذكر، إن "المرحلة الأولى من الاتفاق هي عبارة عن وقف إطلاق نار مؤقت، وقد حصلنا على دعم كامل من الرئيس ترامب والرئيس جو بايدن باستئناف القتال في حال ما إذا كانت المفاوضات حول المرحلة الثانية غير مجدية".
وأضاف "إذا كان علينا العودة إلى القتال، سنفعل ذلك بطرق جديدة وبقوة أكبر".
وذكر نتنياهو: "خلال المفاوضات قمت بوضع عدة مبادئ أساسية، الأولى الحفاظ على القدرات للعودة إلى القتال بدعم الولايات المتحدة الأمريكية حالما اقتضى الأمر ذلك، وعلى مدار شهور طويلة طلبت حماس التزامات مسبقة بإنهاء الحرب كشرط لإبرام اتفاق، وقد عارضت ذلك بشدة وجرى قبول موقفي"، متابعا: "المبدأ الثاني وهو ذو أهمية أكبر ويتمثل بزيادة كبيرة في عودة المختطفين الأحياء خلال المرحلة الأولى، أما الثالث فهو الحفاظ على محور فيلادلفيا ومنطقة أمنية عازلة، والحديث ليس عن تقليص القوات هناك إنما عن زيادتها، وذلك يتعارض مع كل ما نشر وسمعته في الخارج".
واستطرد: "اغتلنا السنوار والضيف وهنية ونصر الله وكل قادة حزب الله. دمرنا غالبية سلاح الجيش السوري وقمنا بضرب الحوثيين باليمن وعملنا ضد إيران. لقد وجهنا ضربات شديدة للمحور الإيراني كله، وكما تعهدت قمنا بتغيير وجه الشرق الأوسط".
مظاهرات المستوطنين
قبل دخول وقف إطلاق النار حيز التنفيذ، شهدت "تل أبيب" تظاهرة للمستوطنين ضد صفقة تبادل الأسرى، حيث حصلت مواجهات مع الشرطة، التي استخدمت المياه ذات الرائحة الكريهة من أجل تفريق المحتجين، على "طريق بيغن".
وبحسب ما نقلته منصة إعلامية إسرائيلية، اعترض المحتجون على دخول الاتفاق حيز التنفيذ، مطالبين بعدم السماح بحصول ذلك، إذ إن الصفقة "ستحرر مئات الأسرى الفلسطينيين، وستضيع إنجازات الحرب، وتؤدي إلى الهجوم (المماثل لـ"طوفان الأقصى" في الـ7 من أكتوبر 2023) المقبل".
وأغلق المتظاهرون طريقا رئيسيا لوقت قصير فيما هتفوا داعين نتنياهو للاستقالة واستمرار الحرب. وحمل العديد منهم توابيت مكسوة بالأعلام الإسرائيلية ولافتات تصف وقف إطلاق النار بأنه خيانة للجنود الإسرائيليين الذين قتلوا في الحرب.
وفي القدس المحتلة أيضا، نظّم مستوطنون تظاهرة تخللها شجار، مساء السبت 18 يناير.
في نفس الوقت وبشوارع أخرى خرجت مظاهرات حاشدة في تل أبيب للمطالبة بإتمام صفقة التبادل مع حركة حماس واستعادة المحتجزين الإسرائيليين في قطاع غزة.
وندد المتظاهرون بأداء حكومة بنيامين نتنياهو، محذرين من محاولات عناصر متطرفة فيها تعطيل تنفيذ اتفاق وقف إطلاق النار.
وأكدت هيئة عائلات المحتجزين أنها لن تسمح بإفشال الاتفاق مرة أخرى، وأنها ستواصل النضال لاستعادة جميع المحتجزين الإسرائيليين.
وطالبت الهيئة رئيس الحكومة بالتحرك الفوري والعاجل لضمان إتمام الصفقة بكل مراحلها، وبدء مفاوضات المرحلة الثانية فورا وليس بعد 16 يوما.
قبل 36 ساعة من دخول اتفاق وقف اطلاق النار حيز التنفيذ ذكرت صحيفة "يديعوت أحرونوت" الإسرائيلية، يوم الجمعة 17 يناير، إن ثمن اتفاق تبادل الأسرى "كبير وثقيل، وهو بحجم الفشل في 7 أكتوبر 2023". وأضافت إنّه على الرغم من أن هذا الاتفاق لا يحظى بتأييد واسع، إلا أن "السلطات الإسرائيلية عاجزة عن رفضه أو الاستغناء عنه".
ولفتت الصحيفة إلى أنه "جرى ارتكاب أخطاء فادحة في 7 أكتوبر 2023، والآن ندفع ثمن تلك الأخطاء بهذا الاتفاق".
وشددت الصحيفة الإسرائيلية، على أن الاتفاق "ليس مثالياً بل هو اتفاق سيء للغاية للإسرائيليين، وهو يمثل عقابا جماعيا على الفشل في 7 أكتوبر، وهذا ثمن الكارثة وحجمها".
جيش منهك
أقرت "هيئة البث" الإسرائيلية في تقرير لها يوم الجمعة 17 يناير أن "الجيش" منهك وفي حاجة إلى راحة والتدريب، وأكدت أنه "منهك ويجب أن يتوقف عن القتال". من جهته، لفت محلل شؤون عسكرية في "هيئة البث" الإسرائيلية، يوم الجمعة، إلى أنه كانت هناك قوات احتياط يفترض أن تدخل يوم الخميس 16 يناير إلى قطاع غزة "لكن لم يحدث ذلك".
وأضاف أنه لا يجب الدخول إلى مغامرات الآن، "ولا يزال هناك طوال الوقت تقدير للوضع بخصوص ما يجري في الساحات الأخرى مثل الضفة والشمال وما سيجري في القطاع".
كلفة الحرب
يوم الأحد 19 يناير 2025 أفاد موقع "كالكاليست" العبري بأن كلفة الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة منذ بدايتها في 7 أكتوبر 2023 بلغت حوالي 150 مليار شيكل (ما يعادل 41.64 مليار دولار).
وأشار الموقع إلى أن الحرب أسفرت عن مقتل 840 جنديا إسرائيليا وإصابة نحو 14 ألفاً آخرين، بمعدل إصابات يصل إلى حوالي 1000 إصابة شهريا.
وأضاف الموقع في تقرير نشره، أن وقف إطلاق النار المؤقت في غزة، إلى جانب تنفيذ المرحلة الأولى من خطة إعادة الأسرى المحتجزين لدى حركة "حماس"، قد يمثل بداية لنهاية الحرب التي تعد الأطول والأصعب في تاريخ إسرائيل.
ومع ذلك، أكد أن نجاح هذه الصفقة يعتمد على استقرارها في مواجهة محاولات إفشالها، خاصة من قبل الجناح اليميني في الحكومة الإسرائيلية، وعلى إصرار الرئيس الأمريكي ترامب على تنفيذها بالكامل.
وأوضح التقرير أن النقص في أعداد الجنود، في ظل الزيادة الكبيرة في النشاط العسكري واستمرار تهرب طائفة الحريديم من الخدمة العسكرية، يزيد من العبء على جنود الاحتياط.
وكشف أن حوالي 220 ألف جندي احتياط تم تجنيدهم في بداية الحرب، حيث تم استدعاؤهم بشكل متكرر لأداء خدمة ممتدة وصلت إلى ثلاث أو أربع جولات.
وبحسب التقرير، تشير التقديرات الأولية الصادرة عن المؤسسة الأمنية الإسرائيلية إلى إلى أن تكلفة الحرب تبلغ 150 مليار شيكل، منها حوالي 44 مليار شيكل (ما يعادل 12.22 مليار دولار) مخصصة لدفع رواتب جنود الاحتياط ونفقات الأفراد.
وأشار إلى أن رواتب الاحتياط كانت بند الإنفاق الأعلى في الحرب، إذ تجاوزت تكاليف الأسلحة أو تشغيل المنصات العسكرية مثل الطائرات المقاتلة. ولفت إلى أن الحد الأدنى للإنفاق الشهري على كل جندي احتياط يبلغ حوالي 15 ألف شيكل (4.16 آلاف دولار)، بما في ذلك المنح والمكافآت.
وأضاف الموقع أن عدد جنود الاحتياط الفعليين انخفض بشكل كبير مقارنة بأعدادهم القصوى في بداية الحرب، حيث وصل حالياً إلى حوالي ربع العدد الأصلي.
فشل تام
نشر موقع "ميدل إيست آي" يوم الجمعة 16 يناير مقالا كتبه رئيس تحريره ديفيد هيرست، تحدث فيه عن وقف إطلاق النار في غزة، ورأى أن "إسرائيل" هزمت في الحرب، والاتفاق يشكل لها فشلا في كل الصعد.
وذكر عندما حانت اللحظة الحاسمة، كان نتنياهو، أول من تخلى عن موقفه. لقد أصبح نتنياهو، طوال أشهر، العقبة الرئيسة أمام وقف إطلاق النار في غزة، وتسبب بإحباط كبير لمفاوضيه.
اتضح ذلك قبل أكثر من شهرين برحيل "وزير الأمن" يوآف غالانت. قال غالانت، المهندس الرئيس للحرب التي استمرت خمسة عشر شهراً، بوضوح، إن الجيش لم يعد لديه ما يفعله في غزة.
ومع ذلك، أصر نتنياهو على استمرار الحرب. ففي الربيع الماضي، رفض الاتفاق الذي قبلته حماس بحضور مدير وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية، ويليام بيرنز، لمصلحة خطته شن هجوم على رفح.
وفي الخريف، لجأ نتنياهو إلى خطة الجنرالات، التي كانت تهدف إلى إفراغ شمالي غزة استعدادا لإعادة توطين الإسرائيليين فيها. وكانت الخطة تتلخص في تجويع سكان شمالي غزة وقصفهم، من خلال إعلان، مفاده أن أي شخص لا يغادر طواعية سوف يعامَل على أنه إرهابي. كان هذا المشروع متطرفا للغاية، ومخالفا للقواعد الدولية للحرب، حتى إن "وزير الأمن" السابق، موشيه يعلون، أدانه، وعده جريمة حرب وتطهيرا عرقيا.
كان المفتاح لهذه الخطة ممرا شقته القوات الإسرائيلية، وسلسلة من البؤر الاستيطانية تشق الطريق نحو وسط قطاع غزة، من الحدود الإسرائيلية إلى البحر. وكان من شأن ممر نتساريم أن يقلص فعليا مساحة الأراضي في القطاع إلى نحو الثلث. ولن يسمح لأي فلسطيني يتم طرده من شمالي غزة بالعودة.
تختلف وجهات النظر في إسرائيل بين من يرى أن الجيش حقق هدفه وتمكن من القضاء على قدرات "حماس"، وبين من يعتبر أن إسرائيل فشلت وهزمت.
رأت "القناة 12" أن "كتائب حماس احتفظت بقوتها وما يجري الآن يؤكد وجودها في كل مكان وسيطرتها على القطاع رغم الحرب الطويلة".
أما معلق الشؤون العربية في قناة "i24News" العبرية تسفي يحزقالي، فصرح لصحيفة "معاريف" قائلا: "هناك في غزة بالفعل احتفالات فرح. الأمر الأصعب بالنسبة لي هذا الصباح هو رؤية هذه المشاهد. النخبة عادت على المركبات، تلك المركبات التي ذبحتنا، هؤلاء الأشخاص الذين ذبحونا".
وأضاف: "15 شهرا من القتال ولم ننجح في تغيير معادلات الحرب في غزة"، مردفا: "في الواقع أسأل نفسي، ماذا فعلنا هنا خلال عام وخمسة أشهر؟ دمرنا العديد من المنازل، وقدمنا خيرة أبنائنا، وفي النهاية النتيجة هي نفس الصيغ. حماس فرحة، المساعدات تدخل، والنخبة تعود".
الصحفي الإسرائيلي يانون يتاح قال: "آخر عملية يتولى بن غفير مسؤوليتها كوزير للأمن القومي هي الإشراف على إطلاق سراح الأسرى الفلسطينيين من السجن".
من جهته، صرح وزير المالية الإسرائيلي بتسلئيل سموتريتش قائلا: "أنا أعارض هذه الصفقة بكل ذرة من كياني وأعتقد أنها تشكل خطرا على دولة إسرائيل وأشعر بالفرح لكل أخ وأخت يعود إلى المنزل من أسر حماس".
واعتبر غيورا آيلاند، رئيس مجلس الأمن القومي الإسرائيلي سابقا وصاحب "خطة الجنرالات"، في تعليقه على اتفاق وقف إطلاق النار بين "حماس" وتل أبيب، أن "حماس" انتصرت وإسرائيل فشلت فشلا مدويا.
رئيس الموساد السابق، تامير باردو، أعاد خلال حديثه إلى القناة 12 العبرية، التذكير بحرب فيتنام في العاصمة سايغون، وقال: "في اليوم الأخير من الحرب، كان هناك ضابطان برتبة عقيد، أمريكي وآخر من شمالي الفيتنام. حينها قال الأمريكي للضابط الفيتنامي: "في كل الحرب، نحن لم نخسر في معركة واحدة"، ليرد عليه الأخير: "قد يكون هذا صحيحا، لكن في صباح يوم غد، أنتم ستغادرون ونحن سنبقى".
وأكد باردو أن "الحرب لا ينتصر بها فقط في ميدان المعركة. الميدان هو الجزء الأول منها، لكن الجزء الأساسي هو نهايتها".
ولفت إلى أن "حكومة إسرائيل تصر على عدم إعلان كيفية إنهاء الحرب، الأمر الذي أضر بالجيش، وأضر بإجراءات القتال التابعة للجيش، وتسبب بوقوع خسائر كبيرة لنا، لأن إسرائيل لم تقل كيف تريد أن تنهي الحرب".
نتنياهو والعودة للحرب
رئيس الحكومة الإسرائيلية من جانبه ذكر، إن "المرحلة الأولى من الاتفاق هي عبارة عن وقف إطلاق نار مؤقت، وقد حصلنا على دعم كامل من الرئيس ترامب والرئيس جو بايدن باستئناف القتال في حال ما إذا كانت المفاوضات حول المرحلة الثانية غير مجدية".
وأضاف "إذا كان علينا العودة إلى القتال، سنفعل ذلك بطرق جديدة وبقوة أكبر".
وذكر نتنياهو: "خلال المفاوضات قمت بوضع عدة مبادئ أساسية، الأولى الحفاظ على القدرات للعودة إلى القتال بدعم الولايات المتحدة الأمريكية حالما اقتضى الأمر ذلك، وعلى مدار شهور طويلة طلبت حماس التزامات مسبقة بإنهاء الحرب كشرط لإبرام اتفاق، وقد عارضت ذلك بشدة وجرى قبول موقفي"، متابعا: "المبدأ الثاني وهو ذو أهمية أكبر ويتمثل بزيادة كبيرة في عودة المختطفين الأحياء خلال المرحلة الأولى، أما الثالث فهو الحفاظ على محور فيلادلفيا ومنطقة أمنية عازلة، والحديث ليس عن تقليص القوات هناك إنما عن زيادتها، وذلك يتعارض مع كل ما نشر وسمعته في الخارج".
واستطرد: "اغتلنا السنوار والضيف وهنية ونصر الله وكل قادة حزب الله. دمرنا غالبية سلاح الجيش السوري وقمنا بضرب الحوثيين باليمن وعملنا ضد إيران. لقد وجهنا ضربات شديدة للمحور الإيراني كله، وكما تعهدت قمنا بتغيير وجه الشرق الأوسط".
مظاهرات المستوطنين
قبل دخول وقف إطلاق النار حيز التنفيذ، شهدت "تل أبيب" تظاهرة للمستوطنين ضد صفقة تبادل الأسرى، حيث حصلت مواجهات مع الشرطة، التي استخدمت المياه ذات الرائحة الكريهة من أجل تفريق المحتجين، على "طريق بيغن".
وبحسب ما نقلته منصة إعلامية إسرائيلية، اعترض المحتجون على دخول الاتفاق حيز التنفيذ، مطالبين بعدم السماح بحصول ذلك، إذ إن الصفقة "ستحرر مئات الأسرى الفلسطينيين، وستضيع إنجازات الحرب، وتؤدي إلى الهجوم (المماثل لـ"طوفان الأقصى" في الـ7 من أكتوبر 2023) المقبل".
وأغلق المتظاهرون طريقا رئيسيا لوقت قصير فيما هتفوا داعين نتنياهو للاستقالة واستمرار الحرب. وحمل العديد منهم توابيت مكسوة بالأعلام الإسرائيلية ولافتات تصف وقف إطلاق النار بأنه خيانة للجنود الإسرائيليين الذين قتلوا في الحرب.
وفي القدس المحتلة أيضا، نظّم مستوطنون تظاهرة تخللها شجار، مساء السبت 18 يناير.
في نفس الوقت وبشوارع أخرى خرجت مظاهرات حاشدة في تل أبيب للمطالبة بإتمام صفقة التبادل مع حركة حماس واستعادة المحتجزين الإسرائيليين في قطاع غزة.
وندد المتظاهرون بأداء حكومة بنيامين نتنياهو، محذرين من محاولات عناصر متطرفة فيها تعطيل تنفيذ اتفاق وقف إطلاق النار.
وأكدت هيئة عائلات المحتجزين أنها لن تسمح بإفشال الاتفاق مرة أخرى، وأنها ستواصل النضال لاستعادة جميع المحتجزين الإسرائيليين.
وطالبت الهيئة رئيس الحكومة بالتحرك الفوري والعاجل لضمان إتمام الصفقة بكل مراحلها، وبدء مفاوضات المرحلة الثانية فورا وليس بعد 16 يوما.
قبل 36 ساعة من دخول اتفاق وقف اطلاق النار حيز التنفيذ ذكرت صحيفة "يديعوت أحرونوت" الإسرائيلية، يوم الجمعة 17 يناير، إن ثمن اتفاق تبادل الأسرى "كبير وثقيل، وهو بحجم الفشل في 7 أكتوبر 2023". وأضافت إنّه على الرغم من أن هذا الاتفاق لا يحظى بتأييد واسع، إلا أن "السلطات الإسرائيلية عاجزة عن رفضه أو الاستغناء عنه".
ولفتت الصحيفة إلى أنه "جرى ارتكاب أخطاء فادحة في 7 أكتوبر 2023، والآن ندفع ثمن تلك الأخطاء بهذا الاتفاق".
وشددت الصحيفة الإسرائيلية، على أن الاتفاق "ليس مثالياً بل هو اتفاق سيء للغاية للإسرائيليين، وهو يمثل عقابا جماعيا على الفشل في 7 أكتوبر، وهذا ثمن الكارثة وحجمها".
جيش منهك
أقرت "هيئة البث" الإسرائيلية في تقرير لها يوم الجمعة 17 يناير أن "الجيش" منهك وفي حاجة إلى راحة والتدريب، وأكدت أنه "منهك ويجب أن يتوقف عن القتال". من جهته، لفت محلل شؤون عسكرية في "هيئة البث" الإسرائيلية، يوم الجمعة، إلى أنه كانت هناك قوات احتياط يفترض أن تدخل يوم الخميس 16 يناير إلى قطاع غزة "لكن لم يحدث ذلك".
وأضاف أنه لا يجب الدخول إلى مغامرات الآن، "ولا يزال هناك طوال الوقت تقدير للوضع بخصوص ما يجري في الساحات الأخرى مثل الضفة والشمال وما سيجري في القطاع".
كلفة الحرب
يوم الأحد 19 يناير 2025 أفاد موقع "كالكاليست" العبري بأن كلفة الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة منذ بدايتها في 7 أكتوبر 2023 بلغت حوالي 150 مليار شيكل (ما يعادل 41.64 مليار دولار).
وأشار الموقع إلى أن الحرب أسفرت عن مقتل 840 جنديا إسرائيليا وإصابة نحو 14 ألفاً آخرين، بمعدل إصابات يصل إلى حوالي 1000 إصابة شهريا.
وأضاف الموقع في تقرير نشره، أن وقف إطلاق النار المؤقت في غزة، إلى جانب تنفيذ المرحلة الأولى من خطة إعادة الأسرى المحتجزين لدى حركة "حماس"، قد يمثل بداية لنهاية الحرب التي تعد الأطول والأصعب في تاريخ إسرائيل.
ومع ذلك، أكد أن نجاح هذه الصفقة يعتمد على استقرارها في مواجهة محاولات إفشالها، خاصة من قبل الجناح اليميني في الحكومة الإسرائيلية، وعلى إصرار الرئيس الأمريكي ترامب على تنفيذها بالكامل.
وأوضح التقرير أن النقص في أعداد الجنود، في ظل الزيادة الكبيرة في النشاط العسكري واستمرار تهرب طائفة الحريديم من الخدمة العسكرية، يزيد من العبء على جنود الاحتياط.
وكشف أن حوالي 220 ألف جندي احتياط تم تجنيدهم في بداية الحرب، حيث تم استدعاؤهم بشكل متكرر لأداء خدمة ممتدة وصلت إلى ثلاث أو أربع جولات.
وبحسب التقرير، تشير التقديرات الأولية الصادرة عن المؤسسة الأمنية الإسرائيلية إلى إلى أن تكلفة الحرب تبلغ 150 مليار شيكل، منها حوالي 44 مليار شيكل (ما يعادل 12.22 مليار دولار) مخصصة لدفع رواتب جنود الاحتياط ونفقات الأفراد.
وأشار إلى أن رواتب الاحتياط كانت بند الإنفاق الأعلى في الحرب، إذ تجاوزت تكاليف الأسلحة أو تشغيل المنصات العسكرية مثل الطائرات المقاتلة. ولفت إلى أن الحد الأدنى للإنفاق الشهري على كل جندي احتياط يبلغ حوالي 15 ألف شيكل (4.16 آلاف دولار)، بما في ذلك المنح والمكافآت.
وأضاف الموقع أن عدد جنود الاحتياط الفعليين انخفض بشكل كبير مقارنة بأعدادهم القصوى في بداية الحرب، حيث وصل حالياً إلى حوالي ربع العدد الأصلي.
فشل تام
نشر موقع "ميدل إيست آي" يوم الجمعة 16 يناير مقالا كتبه رئيس تحريره ديفيد هيرست، تحدث فيه عن وقف إطلاق النار في غزة، ورأى أن "إسرائيل" هزمت في الحرب، والاتفاق يشكل لها فشلا في كل الصعد.
وذكر عندما حانت اللحظة الحاسمة، كان نتنياهو، أول من تخلى عن موقفه. لقد أصبح نتنياهو، طوال أشهر، العقبة الرئيسة أمام وقف إطلاق النار في غزة، وتسبب بإحباط كبير لمفاوضيه.
اتضح ذلك قبل أكثر من شهرين برحيل "وزير الأمن" يوآف غالانت. قال غالانت، المهندس الرئيس للحرب التي استمرت خمسة عشر شهراً، بوضوح، إن الجيش لم يعد لديه ما يفعله في غزة.
ومع ذلك، أصر نتنياهو على استمرار الحرب. ففي الربيع الماضي، رفض الاتفاق الذي قبلته حماس بحضور مدير وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية، ويليام بيرنز، لمصلحة خطته شن هجوم على رفح.
وفي الخريف، لجأ نتنياهو إلى خطة الجنرالات، التي كانت تهدف إلى إفراغ شمالي غزة استعدادا لإعادة توطين الإسرائيليين فيها. وكانت الخطة تتلخص في تجويع سكان شمالي غزة وقصفهم، من خلال إعلان، مفاده أن أي شخص لا يغادر طواعية سوف يعامَل على أنه إرهابي. كان هذا المشروع متطرفا للغاية، ومخالفا للقواعد الدولية للحرب، حتى إن "وزير الأمن" السابق، موشيه يعلون، أدانه، وعده جريمة حرب وتطهيرا عرقيا.
كان المفتاح لهذه الخطة ممرا شقته القوات الإسرائيلية، وسلسلة من البؤر الاستيطانية تشق الطريق نحو وسط قطاع غزة، من الحدود الإسرائيلية إلى البحر. وكان من شأن ممر نتساريم أن يقلص فعليا مساحة الأراضي في القطاع إلى نحو الثلث. ولن يسمح لأي فلسطيني يتم طرده من شمالي غزة بالعودة.
مسح الخطوط الحمر
لم يجبر أحد من إدارة بايدن نتنياهو على إعادة النظر في هذه الخطة. لا الرئيس الأمريكي جو بايدن نفسه، الصهيوني الغريزي الذي استمر، على الرغم من كل خطاباته، في تزويد "إسرائيل" بالوسائل اللازمة لارتكاب الإبادة الجماعية في غزة، ولا أنتوني بلينكن، وزير خارجيته، الذي نال التميز بأنه الدبلوماسي الأقل ثقة في المنطقة.
حتى مع وضع اللمسات الأخيرة على اتفاق وقف إطلاق النار، عقد بلينكن مؤتمرا صحافيا عند مغادرته، ألقى فيه اللوم على حماس بسبب رفض العروض السابقة. وكما هو معتاد، فإن العكس هو الصحيح. وأفاد كل صحافي إسرائيلي غطى المفاوضات بأن نتنياهو رفض جميع الصفقات السابقة، وكان مسؤولا عن التأخير في التوصل إلى هذه الصفقة.
كان اجتماع قصير مع المبعوث الخاص للرئيس الأمريكي المنتخب، دونالد ترامب، إلى الشرق الأوسط، ستيف ويتكوف، كافيا لإنهاء حرب نتنياهو، التي استمرت 15 شهرا. وبعد اجتماع واحد، تم محو الخطوط الحمر، التي رسمها نتنياهو بقوة على مدى 15 شهرا. وكما قال الخبير الإسرائيلي، إيريل سيجال: "نحن أول من يدفع ثمن انتخاب ترامب. الصفقة تفرض علينا.. كنا نعتقد أننا سنسيطر على شمالي غزة، وأنهم سيسمحون لنا بإعاقة المساعدات الإنسانية".
هذا يظهر كإجماع. المزاج في "إسرائيل" متشكك في مزاعم النصر. كتب الكاتب يوسي يهوشوا في صحيفة "يديعوت أحرونوت": "ليست هناك حاجة إلى تجميل الواقع: إن وقف إطلاق النار الناشئ، واتفاقية إطلاق سراح الأسرى، سيئان لإسرائيل، لكن ليس لديها خيار سوى قبولهما".
إن المسودة المتداولة لاتفاق وقف إطلاق النار واضحة في التأكيد أن "إسرائيل" ستنسحب من ممر فيلادلفيا وممر نتساريم بحلول نهاية العملية، وهو الشرط الذي رفضه نتنياهو سابقا. وحتى من دون هذا، فإن مسودة الاتفاق تنص بوضوح على أن الفلسطينيين يستطيعون العودة إلى ديارهم، بما في ذلك شمالي غزة. وفشلت محاولة إخلاء المنطقة من سكانها. وهذا هو الفشل الأكبر الذي لحق بالغزو البري الإسرائيلي.
القتال مرة أخرى
هناك قائمة طويلة من الأسباب الأخرى، لكن قبل أن نذكرها، فإن اجتماع ويتكوف يؤكد مدى اعتماد "إسرائيل" على واشنطن، في كل يوم من أيام المذبحة المروعة في غزة. لقد اعترف مسؤول كبير في سلاح الجو الإسرائيلي بأن الطائرات كانت ستنفد قنابلها في غضون بضعة أسابيع لو لم يتم إعادة إمدادها من جانب الولايات المتحدة.
لقد بدأ الرأي العام الإسرائيلي يدرك أن الحرب تنتهي من دون تحقيق أي من أهداف "إسرائيل" الرئيسة.
كان نتنياهو و"الجيش" الإسرائيلي مصممين على جعل حركة حماس "تنهار" بعد هجومها في أكتوبر 2023، لكن من الواضح أنهما لم يحققا هذا الهدف.
خذ بيت حانون في شمالي غزة نموذجا مصغرا عن المعركة التي خاضتها حماس ضد القوات الغازية. فقبل خمسة عشر شهرا، كانت أول مدينة في غزة تحتلها القوات الإسرائيلية، التي حكمت بأنها تضم أضعف كتيبة من حماس. لكن، بعد موجة تلو الأخرى من العمليات العسكرية، والتي كان من المفترض أن "تطهر" كل منها المدينة من مقاتلي حماس، تبين أن بيت حانون ألحقت أكبر الخسائر في صفوف "الجيش" الإسرائيلي.
واصلت حماس الخروج من بين الأنقاض للرد، الأمر الذي حول بيت حانون إلى حقل ألغام للجنود الإسرائيليين. منذ إطلاق العملية العسكرية الأخيرة في شمالي غزة، لقي 55 ضابطا وجنديا إسرائيليا حتفهم في هذا القطاع، 15 منهم في بيت حانون، في الأسبوع الماضي وحده.
إذا كان هناك جيش ينزف ويستنزف اليوم، فهو "جيش إسرائيل". والحقيقة العسكرية الواضحة للحياة في غزة هي أنه، بعد 15 شهرا، تستطيع حماس تجنيد نفسها وتجديدها بسرعة أكبر من قدرة "إسرائيل" على قتل قادتها أو مقاتليها.
وصرح أمير أفيفي، العميد الإسرائيلي المتقاعد، لصحيفة "وول ستريت جورنال" الأمريكية: "نحن في وضع أصبحت فيه وتيرة إعادة بناء حماس نفسها أعلى من وتيرة القضاء عليها". وأضاف أنّ "محمد السنوار، الشقيق الأصغر لزعيم حماس المقتول يحيى السنوار، يدير كل شيء". وإذا كان هناك ما يدل على عبثية قياس النجاح العسكري فقط بعدد القادة الذين قتلوا، أو الصواريخ التي دمرت، فهو هذا.
مواجهة الصعوبات
في حروب التحرير، يمكن للضعفاء والأقل تسليحا أن ينجحوا في مواجهة الصعوبات العسكرية الساحقة. هذه الحروب هي معارك إرادة. ليست المعركة هي المهمة، بل القدرة على الاستمرار في القتال.
في الجزائر والمغرب وفيتنام، كان للجيشين الفرنسي والأمريكي ميزة عسكرية ساحقة، لكن كلتا القوتين انسحبت نتيجة عار وفشل بعد أعوام متعددة. في فيتنام، مرت أكثر من ستة أعوام منذ هجوم تيت، والذي كان ينظر إليه في ذلك الوقت على أنه فشل عسكري، مثل هجوم حماس في الـ7 من أكتوبر 2023. لكن رمز المقاومة، بعد أعوام متعددة من الحصار، أثبت أنه حاسم في الحرب.
في فرنسا، لا تزال ندوب الجزائر باقية حتى يومنا هذا. في كل حرب تحرير، أثبت تصميم الضعيف على المقاومة أنه أكثر حسما من قوة نيران الأقوياء.
في غزة، كان إصرار الشعب الفلسطيني على البقاء في أرضه، حتى مع تحولها إلى أنقاض، العامل الحاسم في هذه الحرب. وهذا إنجاز مذهل، إذا أخذنا في الحسبان أن هذه المنطقة، التي تبلغ مساحتها 360 كيلومترا مربعا، كانت معزولة تماما عن العالم، ولم يكن هناك حلفاء لكسر الحصار ولا تضاريس طبيعية للاختباء.
لم يكن التجويع القسري، ولا انخفاض حرارة الجسم، ولا المرض، ولا الوحشية والاغتصاب الجماعي على أيدي الغزاة، أمرا كافيا لكسر إرادة الفلسطينيين في البقاء في أرضهم. لم يسبق للمقاتلين والمدنيين الفلسطينيين أن أظهروا هذا المستوى من المقاومة في تاريخ الصراع، وقد يثبت هذا أنه تحولي، لأن ما خسرته "إسرائيل"، في حملتها لسحق غزة، لا يمكن حسابه. لقد أهدرت عقودا من الجهود الاقتصادية والعسكرية والدبلوماسية المتواصلة لترسيخ مكانتها كـ"دولة" غربية ديمقراطية ليبرالية، في نظر الرأي العام العالمي.
ذاكرة الأجيال
لم تخسر "إسرائيل" الجنوب العالمي فحسب، بل فقدت أيضا دعم جيل في الغرب. هذا ليس رأيي فحسب، بل هذا أيضا ما قاله أيضا جاك لو، الرجل الذي رشحه بايدن سفيرا له في "إسرائيل"، قبل شهر من هجوم حماس.
في المقابلة، التي أجراها قبل مغادرته، قال لو، وهو يهودي أرثوذكسي، لصحيفة "تايمز أوف إسرائيل"، إن "الرأي العام في الولايات المتحدة لا يزال مؤيدا لإسرائيل إلى حد كبير، لكن هذا يتغير". وأضاف أن "ما يتعين عليها القلق بشأنه عندما تنتهي هذه الحرب هو ذاكرة الأجيال".
إن أكثر من ثلث المراهقين اليهود الأمريكيين يتعاطفون مع حماس، ويعتقد 42 في المئة أن "إسرائيل" ترتكب إبادة جماعية في غزة، ويتعاطف 66 في المئة مع الشعب الفلسطيني ككل. هذه ليست ظاهرة جديدة. لقد أظهرت استطلاعات الرأي، التي أُجريت قبل عامين من الحرب، أن ربع اليهود الأمريكيين يتفقون على أن "إسرائيل دولة فصل عنصري"، ولم تجد أغلبية المستطلَعين أن هذا البيان معاد للسامية.
أضرار جسيمة
أصبحت الحرب في غزة بمنزلة المنشور، الذي يرى من خلاله جيل جديد من زعماء العالم المستقبليين الصراع الإسرائيلي الفلسطيني. وهذه خسارة استراتيجية لـ "إسرائيل"، التي اعتقدت، حتى السادس من أكتوبر 2023، أنها أغلقت قضية فلسطين، وأن الرأي العام العالمي أصبح في جيبها. لكن الضرر أعمق من ذلك.
لقد خلقت الاحتجاجات المناهضة للحرب، وهي الاحتجاجات التي أدانتها الحكومات الغربية أولا كونها معاداة للسامية، ثم شرعت عدها إرهابا، جبهة عالمية لتحرير فلسطين، كما أن الحركة الرامية إلى مقاطعة "إسرائيل" أقوى من أي وقت مضى.
إن "إسرائيل" في قفص الاتهام أمام العدالة الدولية أكثر من أي وقت مضى. فليس هناك، فحسب، أوامر اعتقال صادرة بحق نتنياهو وغالانت بتهمة ارتكاب جرائم حرب، وقضية إبادة جماعية مستمرة في محكمة العدل الدولية، بل إن عددا لا يحصى من القضايا الأخرى، أيضا، على وشك أن تغمر المحاكم في كل ديمقراطية غربية كبرى.
وتم رفع دعوى قضائية في المملكة المتحدة ضد شركة "BP" لتزويد "إسرائيل" بالنفط الخام، والذي يزعم أن "الجيش" الإسرائيلي يستخدمه من خط أنابيبها الممتد من أذربيجان إلى تركيا.
بالإضافة إلى ذلك، قرر "الجيش" الإسرائيلي مؤخرا إخفاء هويات جميع أفراد القوات التي شاركت في الحملة في غزة، خوفا من ملاحقتهم عند السفر إلى الخارج. وأثارت هذه الخطوة الكبرى مجموعة ناشطة صغيرة، سميت على اسم هند رجب، وهي طفلة تبلغ من العمر ستة أعوام، قتلتها القوات الإسرائيلية في غزة، في يناير 2024. وقدمت المجموعة، التي تتخذ بلجيكا مقرا لها، أدلة على 1000 إسرائيلي مارسوا جرائم الحرب إلى المحكمة الجنائية الدولية، بما في ذلك مقاطع الفيديو والصوت وتقارير الطب الشرعي، وغيرها من الوثائق.
وبالتالي، فإن وقف إطلاق النار في غزة ليس نهاية كابوس فلسطين، بل بداية كابوس "إسرائيل". ولن تكتسب هذه التحركات القانونية زخما إلا مع الكشف عن حقيقة ما حدث في غزة، وتوثيقها بعد انتهاء الحرب.
انقسامات داخلية
في الداخل، سيعود نتنياهو من الحرب إلى "بلد" منقسم داخليا أكثر من أي وقت مضى. هناك معركة بين "الجيش" والحريديم، الذين يرفضون الخدمة، وهناك معركة بين الصهاينة العلمانيين والمتدينين القوميين. مع تراجع نتنياهو في غزة، يشعر اليمين المتطرف الاستيطاني بأن فرصة إقامة "إسرائيل" الكبرى انتزعت من فكي النصر العسكري. في الوقت نفسه، كانت هناك هجرة غير مسبوقة لليهود من "إسرائيل".
على المستوى الإقليمي، تركت "إسرائيل" قوات لا تزال في لبنان وسوريا. سيكون من الحماقة أن نفكر في هذه العمليات الجارية على أنها استعادة للردع الذي فقدته "إسرائيل" في الـ7 من أكتوبر 2023.
ربما تلقى محور المقاومة الإيراني بعض الضربات الكبيرة، كالقضاء على قيادة حزب الله، وبعد سقوط النظام السوري. لكن، مثل حماس، لم يتم القضاء على حزب الله كقوة مقاتلة.
أيضا، أثارت غزة والقمع المستمر في الضفة الغربية المحتلة غضب العالم العربي السني، أكثر من أي وقت مضى.
إن محاولة "إسرائيل" الصريحة تقسيم سوريا إلى كانتونات تعَد أمرا استفزازيا للسوريين من جميع الطوائف والأعراق، كما أن خططها ضم المنطقتين (ب) و(ج) من الضفة الغربية تشكل تهديدا وجوديا للأردن. وسوف يتم التعامل مع الضم في عمان على أنه عمل حربي.
ستتراجع حماس وغزة الآن إلى الخلف. ومع التكلفة الهائلة في الأرواح، تأثرت كل أسرة بالخسارة، لكن ما حققته غزة في الأشهر الخمسة عشر الماضية قد يحول الصراع.
أظهرت غزة لجميع الفلسطينيين والعالم أنها قادرة على تحمل الحرب الشاملة، وعدم التزحزح عن الأرض التي تقف عليها. وهي تخبر العالم، بفخر مبرر، بأن المحتلين ألقوا كل ما لديهم عليها، ولم تكن هناك نكبة أخرى.
إن غزة تخبر "إسرائيل" بأن الفلسطينيين موجودون، وأنهم لن يهدأ لهم بال إلا إذا تحدث الإسرائيليون معهم على قدم المساواة بشأن الحقوق المتساوية.
قد يستغرق الأمر أعواما أخرى حتى يستوعب الإسرائيليون هذا الإدراك، لكن البعض أدركه بالفعل: "حتى لو غزونا الشرق الأوسط بأكمله، وحتى لو استسلم الجميع لنا، فلن نفوز بهذه الحرب"، هكذا كتب الكاتب يائير أسولين، في صحيفة "هآرتس".
إن ما حققه كل من بقي في غزة له أهمية تاريخية.
لم يجبر أحد من إدارة بايدن نتنياهو على إعادة النظر في هذه الخطة. لا الرئيس الأمريكي جو بايدن نفسه، الصهيوني الغريزي الذي استمر، على الرغم من كل خطاباته، في تزويد "إسرائيل" بالوسائل اللازمة لارتكاب الإبادة الجماعية في غزة، ولا أنتوني بلينكن، وزير خارجيته، الذي نال التميز بأنه الدبلوماسي الأقل ثقة في المنطقة.
حتى مع وضع اللمسات الأخيرة على اتفاق وقف إطلاق النار، عقد بلينكن مؤتمرا صحافيا عند مغادرته، ألقى فيه اللوم على حماس بسبب رفض العروض السابقة. وكما هو معتاد، فإن العكس هو الصحيح. وأفاد كل صحافي إسرائيلي غطى المفاوضات بأن نتنياهو رفض جميع الصفقات السابقة، وكان مسؤولا عن التأخير في التوصل إلى هذه الصفقة.
كان اجتماع قصير مع المبعوث الخاص للرئيس الأمريكي المنتخب، دونالد ترامب، إلى الشرق الأوسط، ستيف ويتكوف، كافيا لإنهاء حرب نتنياهو، التي استمرت 15 شهرا. وبعد اجتماع واحد، تم محو الخطوط الحمر، التي رسمها نتنياهو بقوة على مدى 15 شهرا. وكما قال الخبير الإسرائيلي، إيريل سيجال: "نحن أول من يدفع ثمن انتخاب ترامب. الصفقة تفرض علينا.. كنا نعتقد أننا سنسيطر على شمالي غزة، وأنهم سيسمحون لنا بإعاقة المساعدات الإنسانية".
هذا يظهر كإجماع. المزاج في "إسرائيل" متشكك في مزاعم النصر. كتب الكاتب يوسي يهوشوا في صحيفة "يديعوت أحرونوت": "ليست هناك حاجة إلى تجميل الواقع: إن وقف إطلاق النار الناشئ، واتفاقية إطلاق سراح الأسرى، سيئان لإسرائيل، لكن ليس لديها خيار سوى قبولهما".
إن المسودة المتداولة لاتفاق وقف إطلاق النار واضحة في التأكيد أن "إسرائيل" ستنسحب من ممر فيلادلفيا وممر نتساريم بحلول نهاية العملية، وهو الشرط الذي رفضه نتنياهو سابقا. وحتى من دون هذا، فإن مسودة الاتفاق تنص بوضوح على أن الفلسطينيين يستطيعون العودة إلى ديارهم، بما في ذلك شمالي غزة. وفشلت محاولة إخلاء المنطقة من سكانها. وهذا هو الفشل الأكبر الذي لحق بالغزو البري الإسرائيلي.
القتال مرة أخرى
هناك قائمة طويلة من الأسباب الأخرى، لكن قبل أن نذكرها، فإن اجتماع ويتكوف يؤكد مدى اعتماد "إسرائيل" على واشنطن، في كل يوم من أيام المذبحة المروعة في غزة. لقد اعترف مسؤول كبير في سلاح الجو الإسرائيلي بأن الطائرات كانت ستنفد قنابلها في غضون بضعة أسابيع لو لم يتم إعادة إمدادها من جانب الولايات المتحدة.
لقد بدأ الرأي العام الإسرائيلي يدرك أن الحرب تنتهي من دون تحقيق أي من أهداف "إسرائيل" الرئيسة.
كان نتنياهو و"الجيش" الإسرائيلي مصممين على جعل حركة حماس "تنهار" بعد هجومها في أكتوبر 2023، لكن من الواضح أنهما لم يحققا هذا الهدف.
خذ بيت حانون في شمالي غزة نموذجا مصغرا عن المعركة التي خاضتها حماس ضد القوات الغازية. فقبل خمسة عشر شهرا، كانت أول مدينة في غزة تحتلها القوات الإسرائيلية، التي حكمت بأنها تضم أضعف كتيبة من حماس. لكن، بعد موجة تلو الأخرى من العمليات العسكرية، والتي كان من المفترض أن "تطهر" كل منها المدينة من مقاتلي حماس، تبين أن بيت حانون ألحقت أكبر الخسائر في صفوف "الجيش" الإسرائيلي.
واصلت حماس الخروج من بين الأنقاض للرد، الأمر الذي حول بيت حانون إلى حقل ألغام للجنود الإسرائيليين. منذ إطلاق العملية العسكرية الأخيرة في شمالي غزة، لقي 55 ضابطا وجنديا إسرائيليا حتفهم في هذا القطاع، 15 منهم في بيت حانون، في الأسبوع الماضي وحده.
إذا كان هناك جيش ينزف ويستنزف اليوم، فهو "جيش إسرائيل". والحقيقة العسكرية الواضحة للحياة في غزة هي أنه، بعد 15 شهرا، تستطيع حماس تجنيد نفسها وتجديدها بسرعة أكبر من قدرة "إسرائيل" على قتل قادتها أو مقاتليها.
وصرح أمير أفيفي، العميد الإسرائيلي المتقاعد، لصحيفة "وول ستريت جورنال" الأمريكية: "نحن في وضع أصبحت فيه وتيرة إعادة بناء حماس نفسها أعلى من وتيرة القضاء عليها". وأضاف أنّ "محمد السنوار، الشقيق الأصغر لزعيم حماس المقتول يحيى السنوار، يدير كل شيء". وإذا كان هناك ما يدل على عبثية قياس النجاح العسكري فقط بعدد القادة الذين قتلوا، أو الصواريخ التي دمرت، فهو هذا.
مواجهة الصعوبات
في حروب التحرير، يمكن للضعفاء والأقل تسليحا أن ينجحوا في مواجهة الصعوبات العسكرية الساحقة. هذه الحروب هي معارك إرادة. ليست المعركة هي المهمة، بل القدرة على الاستمرار في القتال.
في الجزائر والمغرب وفيتنام، كان للجيشين الفرنسي والأمريكي ميزة عسكرية ساحقة، لكن كلتا القوتين انسحبت نتيجة عار وفشل بعد أعوام متعددة. في فيتنام، مرت أكثر من ستة أعوام منذ هجوم تيت، والذي كان ينظر إليه في ذلك الوقت على أنه فشل عسكري، مثل هجوم حماس في الـ7 من أكتوبر 2023. لكن رمز المقاومة، بعد أعوام متعددة من الحصار، أثبت أنه حاسم في الحرب.
في فرنسا، لا تزال ندوب الجزائر باقية حتى يومنا هذا. في كل حرب تحرير، أثبت تصميم الضعيف على المقاومة أنه أكثر حسما من قوة نيران الأقوياء.
في غزة، كان إصرار الشعب الفلسطيني على البقاء في أرضه، حتى مع تحولها إلى أنقاض، العامل الحاسم في هذه الحرب. وهذا إنجاز مذهل، إذا أخذنا في الحسبان أن هذه المنطقة، التي تبلغ مساحتها 360 كيلومترا مربعا، كانت معزولة تماما عن العالم، ولم يكن هناك حلفاء لكسر الحصار ولا تضاريس طبيعية للاختباء.
لم يكن التجويع القسري، ولا انخفاض حرارة الجسم، ولا المرض، ولا الوحشية والاغتصاب الجماعي على أيدي الغزاة، أمرا كافيا لكسر إرادة الفلسطينيين في البقاء في أرضهم. لم يسبق للمقاتلين والمدنيين الفلسطينيين أن أظهروا هذا المستوى من المقاومة في تاريخ الصراع، وقد يثبت هذا أنه تحولي، لأن ما خسرته "إسرائيل"، في حملتها لسحق غزة، لا يمكن حسابه. لقد أهدرت عقودا من الجهود الاقتصادية والعسكرية والدبلوماسية المتواصلة لترسيخ مكانتها كـ"دولة" غربية ديمقراطية ليبرالية، في نظر الرأي العام العالمي.
ذاكرة الأجيال
لم تخسر "إسرائيل" الجنوب العالمي فحسب، بل فقدت أيضا دعم جيل في الغرب. هذا ليس رأيي فحسب، بل هذا أيضا ما قاله أيضا جاك لو، الرجل الذي رشحه بايدن سفيرا له في "إسرائيل"، قبل شهر من هجوم حماس.
في المقابلة، التي أجراها قبل مغادرته، قال لو، وهو يهودي أرثوذكسي، لصحيفة "تايمز أوف إسرائيل"، إن "الرأي العام في الولايات المتحدة لا يزال مؤيدا لإسرائيل إلى حد كبير، لكن هذا يتغير". وأضاف أن "ما يتعين عليها القلق بشأنه عندما تنتهي هذه الحرب هو ذاكرة الأجيال".
إن أكثر من ثلث المراهقين اليهود الأمريكيين يتعاطفون مع حماس، ويعتقد 42 في المئة أن "إسرائيل" ترتكب إبادة جماعية في غزة، ويتعاطف 66 في المئة مع الشعب الفلسطيني ككل. هذه ليست ظاهرة جديدة. لقد أظهرت استطلاعات الرأي، التي أُجريت قبل عامين من الحرب، أن ربع اليهود الأمريكيين يتفقون على أن "إسرائيل دولة فصل عنصري"، ولم تجد أغلبية المستطلَعين أن هذا البيان معاد للسامية.
أضرار جسيمة
أصبحت الحرب في غزة بمنزلة المنشور، الذي يرى من خلاله جيل جديد من زعماء العالم المستقبليين الصراع الإسرائيلي الفلسطيني. وهذه خسارة استراتيجية لـ "إسرائيل"، التي اعتقدت، حتى السادس من أكتوبر 2023، أنها أغلقت قضية فلسطين، وأن الرأي العام العالمي أصبح في جيبها. لكن الضرر أعمق من ذلك.
لقد خلقت الاحتجاجات المناهضة للحرب، وهي الاحتجاجات التي أدانتها الحكومات الغربية أولا كونها معاداة للسامية، ثم شرعت عدها إرهابا، جبهة عالمية لتحرير فلسطين، كما أن الحركة الرامية إلى مقاطعة "إسرائيل" أقوى من أي وقت مضى.
إن "إسرائيل" في قفص الاتهام أمام العدالة الدولية أكثر من أي وقت مضى. فليس هناك، فحسب، أوامر اعتقال صادرة بحق نتنياهو وغالانت بتهمة ارتكاب جرائم حرب، وقضية إبادة جماعية مستمرة في محكمة العدل الدولية، بل إن عددا لا يحصى من القضايا الأخرى، أيضا، على وشك أن تغمر المحاكم في كل ديمقراطية غربية كبرى.
وتم رفع دعوى قضائية في المملكة المتحدة ضد شركة "BP" لتزويد "إسرائيل" بالنفط الخام، والذي يزعم أن "الجيش" الإسرائيلي يستخدمه من خط أنابيبها الممتد من أذربيجان إلى تركيا.
بالإضافة إلى ذلك، قرر "الجيش" الإسرائيلي مؤخرا إخفاء هويات جميع أفراد القوات التي شاركت في الحملة في غزة، خوفا من ملاحقتهم عند السفر إلى الخارج. وأثارت هذه الخطوة الكبرى مجموعة ناشطة صغيرة، سميت على اسم هند رجب، وهي طفلة تبلغ من العمر ستة أعوام، قتلتها القوات الإسرائيلية في غزة، في يناير 2024. وقدمت المجموعة، التي تتخذ بلجيكا مقرا لها، أدلة على 1000 إسرائيلي مارسوا جرائم الحرب إلى المحكمة الجنائية الدولية، بما في ذلك مقاطع الفيديو والصوت وتقارير الطب الشرعي، وغيرها من الوثائق.
وبالتالي، فإن وقف إطلاق النار في غزة ليس نهاية كابوس فلسطين، بل بداية كابوس "إسرائيل". ولن تكتسب هذه التحركات القانونية زخما إلا مع الكشف عن حقيقة ما حدث في غزة، وتوثيقها بعد انتهاء الحرب.
انقسامات داخلية
في الداخل، سيعود نتنياهو من الحرب إلى "بلد" منقسم داخليا أكثر من أي وقت مضى. هناك معركة بين "الجيش" والحريديم، الذين يرفضون الخدمة، وهناك معركة بين الصهاينة العلمانيين والمتدينين القوميين. مع تراجع نتنياهو في غزة، يشعر اليمين المتطرف الاستيطاني بأن فرصة إقامة "إسرائيل" الكبرى انتزعت من فكي النصر العسكري. في الوقت نفسه، كانت هناك هجرة غير مسبوقة لليهود من "إسرائيل".
على المستوى الإقليمي، تركت "إسرائيل" قوات لا تزال في لبنان وسوريا. سيكون من الحماقة أن نفكر في هذه العمليات الجارية على أنها استعادة للردع الذي فقدته "إسرائيل" في الـ7 من أكتوبر 2023.
ربما تلقى محور المقاومة الإيراني بعض الضربات الكبيرة، كالقضاء على قيادة حزب الله، وبعد سقوط النظام السوري. لكن، مثل حماس، لم يتم القضاء على حزب الله كقوة مقاتلة.
أيضا، أثارت غزة والقمع المستمر في الضفة الغربية المحتلة غضب العالم العربي السني، أكثر من أي وقت مضى.
إن محاولة "إسرائيل" الصريحة تقسيم سوريا إلى كانتونات تعَد أمرا استفزازيا للسوريين من جميع الطوائف والأعراق، كما أن خططها ضم المنطقتين (ب) و(ج) من الضفة الغربية تشكل تهديدا وجوديا للأردن. وسوف يتم التعامل مع الضم في عمان على أنه عمل حربي.
ستتراجع حماس وغزة الآن إلى الخلف. ومع التكلفة الهائلة في الأرواح، تأثرت كل أسرة بالخسارة، لكن ما حققته غزة في الأشهر الخمسة عشر الماضية قد يحول الصراع.
أظهرت غزة لجميع الفلسطينيين والعالم أنها قادرة على تحمل الحرب الشاملة، وعدم التزحزح عن الأرض التي تقف عليها. وهي تخبر العالم، بفخر مبرر، بأن المحتلين ألقوا كل ما لديهم عليها، ولم تكن هناك نكبة أخرى.
إن غزة تخبر "إسرائيل" بأن الفلسطينيين موجودون، وأنهم لن يهدأ لهم بال إلا إذا تحدث الإسرائيليون معهم على قدم المساواة بشأن الحقوق المتساوية.
قد يستغرق الأمر أعواما أخرى حتى يستوعب الإسرائيليون هذا الإدراك، لكن البعض أدركه بالفعل: "حتى لو غزونا الشرق الأوسط بأكمله، وحتى لو استسلم الجميع لنا، فلن نفوز بهذه الحرب"، هكذا كتب الكاتب يائير أسولين، في صحيفة "هآرتس".
إن ما حققه كل من بقي في غزة له أهمية تاريخية.
عمر نجيب
للتواصل مع الكاتب
Omar_najib2003@yahoo.fr
للتواصل مع الكاتب
Omar_najib2003@yahoo.fr