ومن خلال التمعن في المصوتين واختياراتهم، يتبين أن القرار الأممي يحمل إشارات تستحق وقفة اعتزاز بما حققته الديبلوماسية الوطنية، والأمل بتحقيق مكتسبات جديدة في الأفق القريب. وأقصد، هنا، التصويت على القرار بالإيجاب من طرف دول مهمة في الساحة الديبلوماسية الدولية، ومهمة جدا في الفضاءات الجيوسياسية الجهوية التي توجد فيها، وهي المكسيك و غانا و الصين.
إذا كان للصين موقفها الثابت في مسألة الوحدة الترابية للدول، فإن نهجها الديبلوماسي تجاه المغرب يؤكد رسوخ الموقف الداعم للمقترح المغربي، وصدق إرادة بكين في بناء شراكة استراتيجية بين بلدينا، تتيح مشاريع كبيرة ومبادرات متميزة في المجال الاقتصادي. أما بالنسبة للمكسيك و غانا، فهما دولتان هامتان، كانت لهما في السابق مواقف متذبذبة بضغط من بروباغندا الكيان الوهمي الانفصالي. لكن، لأن الزمن كشاف للحقائق و فاصل بين المشروعية و بين العبث، يظهر أن قيادات البلدين تتجهان نحو إعادة تقييم شامل للموقف. ولن يكون مفاجئا أن يتم الإعلان، قريبا جدا، عن انحياز المكسيك و غانا للشرعية التاريخية و دعم المقترح المغربي باعتباره الحل الوحيد القابل للتنفيذ لتعزيز السلام و الأمن و التنمية.
أما موقف الحياد الذي اتخذته روسيا، فهو عادي وطبيعي جدا في السياق الحالي. بل، يمكن قراءة موقف موسكو بشكل إيجابي، حيث أنه يؤكد استمرار الحرص الروسي على توازن حضوره في الفضاء المغاربي، وعلى بناء علاقات متينة ومتعددة المحاور مع المملكة المغربية.
نفس الشيء بالنسبة لموقف الحياد الذي اتخذته دولة كينيا، البلد الذي يعيش مرحلة انتقالية بين عهدين، تخفي صراعا خفيا بين إرادة جيل قديم من السياسيين الذين قضوا سنوات و هم ينتفعون من عائدات الديبلوماسية التحريضية التي يمولها خصوم الوحدة الترابية للمغرب، و بين إرادة جديدة و قناعة جادة يحملها الرئيس الكيني، المنتخب قبل أسابيع، الذي يحتاج بعض الوقت كي يرتب الأمور بشكل رصين، بعيدا عن تجاذبات أطراف ينتظر أن تهتم بمصالح بلادها أولا، عوض الجري وراء سراب عصابات الانفصال و داعميه.
في اعتقادي، القرار الأممي الأخير يعتبر مكتسبا جديدا علينا استثماره بشكل قوي. و لعل أفضل البدايات، ما دام السياق الزمني يتيح ذلك، هو تخليد ذكري المسيرة الخضراء لهذه السنة، والتي تحل بعد أيام، بشكل استثنائي، سياسيا و إعلاميا و مجتمعيا و ثقافيا، احتفاء بالانتصارات الديبلوماسية التي حققتها بلادنا، و سعيا لجعل الذكرى حدثا وطنيا نشحذ عبره الهمم، و نحفز الشعور الوطني و الحماس الشعبي، و نجدد عهد السير في طريق تعزيز الجبهة الداخلية من بوابة التنمية والديمقراطية و العدالة، و ترسيخ حقوق الإنسان المغربي الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية، و تقوية المشاركة السياسية والمواطنة لتجديد الدماء في عروق هيئات الوساطة السياسية و الاجتماعية التي ينتظر منها المغاربة أن تبرر وجودها من خلال قدرتها على إفراز نخب جديدة و جادة، تستطيع الترافع الفعال عن قضايانا الوطنية، و تستحق تدبير الشأن العام، و لها من الكفاءة ما يلزم لتنزيل الأوراش التنموية ببلادنا بأعلى درجات الالتزام بالحكامة الجيدة و النزاهة في استثمار الإمكانيات العمومية المتوفرة.
بذلك، سيكون ممكنا المضي، بسرعة أكبر، نحو معالجة قضايا بنيوية ملحة تهم محاور أساسية في واقعنا، هي:
- إشكالية جذب الاستثمار وحسن تدبيره وحمايته من ضغط البيروقراطية وتحالف لوبيات أصحاب المصالح الريعية.
- إشكالية نذرة المياه، و تراجع الغطاء الغابوي، و تمدد التصحر الذي يضرب عددا من المجالات الجغرافية التي تحتاج من السلطات العمومية و المجالس الترابية إلى مبادرات واستثمارات للحد من أخطار طبيعية داهمة بسبب التغير المناخي الذي يعرفه العالم.
- إشكاليات إدماج الشباب والحاجة إلى إبداع نماذج جديدة في التعاطي مع قضاياهم و مع انتظاراتهم، بعيدا عن الأنماط التقليدية التي تجرها، منذ سنوات و دون فائدة أو أثر يذكر، آليات تدبير عمومي لم تحقق المطلوب، و لم تنجح في تعزيز ثقة الشباب في أنفسهم و في إمكانية تحقيقهم لنجاحات في مساراتهم الاجتماعية و المهنية داخل بلادهم.
- تقوية الثقة في الفعل العمومي، بشكل عام، و تقليص الهوة بين المواطنين وبين الإدارة وعدد من المؤسسات التي عليها أن تطور تواصلها و تجدد خدماتها و أساليب عملها، و تخوض رهان العصرنة و التحديث والرقمنة والقرب الحقيقي مما يحتاجه المواطنون.
تلك هي السبيل لبلوغ نتائج ملموسة ترفع همم المغاربة عاليا، وتقوي ثقتهم في ديناميكية تنزيل المشروع التنموي المغربي، وتزيد من توهج نموذج حضاري و مؤسساتي مغربي أصيل، علينا مسؤولية المحافظة على إشعاعه ومكتسباته وثوابته الوطنية، من منطلق أن المغرب كبير على العابثين وهو يستحق منا ممارسات تدبيرية وأخلاق اجتماعية ترقى إلى ما يتسوجبه الانتماء إليه.
يونس التايب