وكانت الأزمة الأوكرانية الحالية قد بدأت بالأساس عندما قالت تقارير استخباراتية أميركية إن روسيا حشدت عشرات الآلاف من قواتها على الحدود مع أوكرانيا استعداداً للغزو، وحددت تلك التقارير التوقيت المحتمل لذلك الغزو.
ورغم أن روسيا تصر منذ اللحظة الأولى لانتشار تلك التقارير، على أنها لا تنوي مهاجمة أوكرانيا، فإن التقارير الاستخباراتية الغربية عموماً، والأميركية خصوصاً لا تتوقف، ولا يكاد يمر يوم دون "تسريب" تقارير استخباراتية جديدة عن تلك الأزمة.
و"روسيا قد تغزو أوكرانيا خلال أسبوعين"، "بوتين يريد تنصيب حكومة موالية له في كييف"، هذان نموذجان لمعلومات استخباراتية سربتها إدارة جو بايدن وأثارت غضب خبراء الاستخبارات، لكن التسريبات الأخيرة حددت "يوم" الغزو الروسي المحتمل، وكيف سيبدأ أيضاً.
كان السبت 12 فبراير قد شهد تطورات يمكن وصفها بأنها اللمسات الأخيرة على انطلاق الحرب، من مكالمة هاتفية وُصفت بالهستيرية بين بايدن ونظيره الروسي فلاديمير بوتين، وإعلان أوكرانيا "منطقة حرب" من جانب الخارجية الأميركية، ودعوة دول غربية مواطنيها للمغادرة فوراً.
والأحد 13 فبراير، قالت أستراليا إنها بدأت في إخلاء سفارتها في العاصمة الأوكرانية كييف، في ظل التدهور السريع للأوضاع على الحدود الروسية الأوكرانية، ودعا رئيس الوزراء سكوت موريسون الصين إلى عدم التزام الصمت بشأن الأزمة.
وكانت الولايات المتحدة وأوروبا قد صعدت التحذيرات من أن روسيا قد تشن هجوماً وشيكاً على أوكرانيا، في حين رفض الكرملين، الذي يسعى لمزيد من النفوذ في أوروبا ما بعد الحرب الباردة، للرد الدبلوماسي المشترك للاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي على مطالبه لخفض حدة التوتر، ووصفه بأنه عديم الاحترام.
وقالت وزيرة الخارجية الأسترالية ماريز باين في بيان، إن تعليمات صدرت لموظفي السفارة في كييف بالانتقال إلى مكتب مؤقت في مدينة لفيف الواقعة بغرب أوكرانيا على بعد حوالي 70 كيلومتراً من الحدود مع بولندا.
وأضافت "نواصل نصيحتنا للأستراليين بمغادرة أوكرانيا على الفور بالوسائل التجارية".
ووزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن كان قد برر مغادرة العاملين في سفارة بلاده بأوكرانيا بأنها نتيجة لمعلومات تشير إلى أن احتمال قيام روسيا بعمل عسكري في أوكرانيا بات وشيكاً وكبيراً.
وأضاف بلينكن في مؤتمر صحفي في هونولولو "أصدرنا أوامر برحيل معظم الأميركيين، الذين ما زالوا في السفارة الأميركية في كييف, احتمال قيام روسيا بعمل عسكري أصبح كبيراً بما يكفي، والخطر بات وشيكاً للدرجة التي تقتضي معها الحكمة القيام بهذا الشيء.
والأوامر صدرت لمعظم موظفي السفارة الأميركية بمغادرة أوكرانيا على الفور بسبب الخطر من حدوث غزو روسي، وتقول وزارة الخارجية الأميركية إن الوضع يبدو أنه يتجه على نحو متزايد إلى "نوع من الصراع النشط", وكانت الوزارة قد طالبت في وقت سابق مواطني الولايات المتحدة بمغادرة أوكرانيا على الفور.
والسبت أيضاً طالبت ألمانيا وإسرائيل مواطنيها بمغادرة أوكرانيا فوراً وانضمتا إلى قائمة الدول التي بدأت في إجلاء رعاياها وموظفي سفاراتها في العاصمة الأوكرانية، على خلفية معلومات استخباراتية مصدرها واشنطن.
وقالت تقارير استخباراتية أميركية تم تسريبها لوسائل الإعلام، الجمعة 11 فبراير، إن الغزو الروسي لأوكرانيا سيبدأ قبل نهاية أولمبياد بكين الشتوية، التي تستضيفها الصين حالياً، والمقرر أن تختتم يوم 20 فبراير، بحسب مجلة Politico الأميركية، نقلاً عن مصادر في إدارة بايدن وصفتها بالرفيعة.
والسبت نقلت المجلة نفسها وصحف أخرى عن نفس المصادر أن بايدن أبلغ الحلفاء الأوروبيين وفي حلف الناتو بتلك المعلومات، وكان ذلك قبل الاتصال الذي جرى بين الرئيسين الأميركي والروسي. ونتيجة لتلك المعلومات، ارتفعت حدة التحذيرات للمواطنين بمغادرة أوكرانيا فوراً، وانضمت لتلك الدعوات دول غربية أخرى.
ولكن وسائل إعلام إسرائيلية كانت أكثر تحديداً، وقالت إن واشنطن أبلغت تل أبيب أن الغزو الروسي المحتمل لأوكرانيا قد يبدأ الثلاثاء أو الأربعاء (15 أو 16 فبراير).
وذكرت صحيفة "هآرتس" أن الإدارة الأميركية أبلغت إسرائيل بأن الاحتلال الروسي لأوكرانيا قد يبدأ الثلاثاء، على أقرب تقدير.
وأفادت الصحيفة أن السلطات الإسرائيلية سرّعت جهودها لإجلاء مواطنيها من أوكرانيا.
وأما صحيفة "يديعوت أحرونوت" فذكرت في خبر على موقعها الإلكتروني أنه أمام إسرائيل فرصة حتى الأربعاء لإجلاء مواطنيها من أوكرانيا، بحسب الإشعارات التي تلقتها تل أبيب من واشنطن.
ويبدو من هذه التطورات المتلاحقة والتسريبات المكثفة لتقارير استخباراتية أن إدارة بايدن تواصل مسلكاً يصيب بعض خبراء المعلومات في أميركا بالقلق من تداعيات ذلك الأسلوب، خوفاً من فقدان أجهزة الاستخبارات الأميركية مصداقيتها، بحسب تقرير لمجلة Politico عنوانه "مجتمع الجواسيس قلق من تسريب فريق بايدن معلومات حول روسيا".
ولكن على الجانب الآخر، يرى فريق من المحللين والخبراء أن إدارة بايدن تسعى إلى إجهاض مخططات بوتين لغزو أوكرانيا أو التغلغل في أراضيها كما فعل عام 2014 من خلال "فضح أو تسريب" تلك المخططات أولا بأول، بحسب تقرير لصحيفة "The New York Times" عنوانه "أميركا تحارب بوتين بفضح خطواته المحتملة المقبلة المحتملة".
وربما يكون أكثر ما يميز تلك الأزمة، التي يعتبرها بايدن هي الأخطر منذ الحرب العالمية الثانية، هو ذلك التدفق الكبير للمعلومات بشأن روسيا وتفاصيل حشودها العسكرية ومؤامراتها الهادفة إلى زعزعة استقرار أوكرانيا، بحسب تلك التقارير الاستخباراتية الأميركية.
وفي هذه الأجواء المشتعلة والتكهنات بأن حرباً ستبدأ في غضون ساعات أو أيام قليلة على الأكثر، جرى اتصال هاتفي بين بايدن وبوتين، وصفه أحد المسؤولين الروس بأنه اتصال جاء وسط أجواء من "الهستيريا غير المسبوقة" من جانب المسؤولين الأميركيين.
وقال مساعد الرئيس الروسي للشؤون الدولية يوري أوشاكوف إن بوتين استنكر خلال الاتصال الهاتفي مع نظيره الأميركي جو بايدن، "المعلومات المزيفة" حول ما يتردد عن غزو روسي محتمل لأوكرانيا.
وفي تصريحات صحفية، قال أوشاكوف إن المكالمة الهاتفية استمرت أكثر من ساعة، و"جرت في جو من الهستيريا غير المسبوقة من قبل المسؤولين الأميركيين" حول الغزو الروسي المحتمل لأوكرانيا، لكنه اعتبر أن المحادثة بين الزعيمين "كانت متوازنة وعملية".
وذكر أوشاكوف أن بوتين أبلغ بايدن أنه, "من غير الواضح لماذا يقوم شخص ما بالإبلاغ عن معلومات مزيفة عن غزو روسي لأوكرانيا". فهل كان بايدن نفسه هو ذلك "الشخص" الذي يقصده بوتين؟.
وأما بيان البيت الأبيض حول الاتصال فقد ركز على إبلاغ بايدن نظيره الروسي بوتين بأن إقدام روسيا على غزو أوكرانيا سيترتب عليه رد حاسم من الغرب كما سيؤدي إلى معاناة واسعة النطاق وعزل موسك، بحسب رويترز.
وإذ قال مسؤول كبير في إدارة بايدن لرويترز: "إن الاتصال كان احترافياً وموضوعياً، لكنه لم يسفر عن تغيير جوهري".
وقال الكرملين إن بوتين أبلغ بايدن بأن واشنطن لم تأخذ بعين الاعتبار مخاوف روسيا الأساسية، وإن موسكو لم تتلق "إجابة شافية" تتعلق بعناصر رئيسية، منها توسع حلف شمال الأطلسي ونشره قوات هجومية في أوكرانيا.
وقال المسؤول الكبير في إدارة بايدن إنه لا يزال من غير الواضح ما إذا كان بوتين يرغب في اتباع المسار الدبلوماسي، لكنه اتفق مع بايدن على استمرار التواصل بينهما.
يعتزم بايدن مقارنة ملاحظاته مع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الذي تحدث مع كل من بوتين والرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي السبت، وفقاً للبيت الأبيض.
وتحدث كبار المسؤولين العسكريين والدبلوماسيين في إدارة بايدن مع نظرائهم الروس، وقامت وزارة الدفاع الأميركية بسحب 150 من قواتها كانوا في أوكرانيا في مهمات تتعلق بتدريب الأوكرانيين، وتمت إعادة نشرهم في قواعد أمريكية خارج أوكرانيا.
لكن مسؤولاً بالرئاسة الفرنسية قال السبت إنه, "لا يوجد ما يشير إلى أن روسيا تستعد لشن هجوم على أوكرانيا، في أعقاب اتصال أجراه ماكرون مع بوتين".
وأضاف المسؤول الفرنسي لرويترز: "رغم ذلك نحن متيقظون ومتأهبون جداً تجاه الموقف (العسكري) الروسي من أجل تجنب الأسوأ".
الأميركيون يؤكدون هذا والروس ينفونه والفرنسيون أميل إلى وجهة النظر الروسية، والمؤشرات على الأرض توحي بأن الحرب باتت وشيكة، لكن لا أحد يمكنه الجزم بأي شيء حتى الآن.
فقرار روسيا السبت "ترشيد" طاقمها الدبلوماسي في أوكرانيا، خشية "استفزازات" من كييف أو أي طرف آخر، لا يبشر بالخير، ووصفه قائد أركان الجيش الأوكراني بالأمر السخيف، مصدراً بالاشتراك مع وزير الدفاع الأوكراني رسالة تهديد للروس تقول "أهلاً بكم في الجحيم" إذا ما أقدموا على غزو أوكرانيا.
وهذا ما عبَّر عنه مسؤول أميركي بقوله لرويترز إنه لا توجد مؤشرات على ما سوف يقرره بوتين، لكن الخطوات التي تتخذها روسيا "على مرأى من الجميع" تجعلهم يخشون الأسوأ.
أما رئيس أوكرانيا زيلينسكي فلا يزال متمسكاً بالأمل، ويحث الناس على عدم الخوف، ويرفض ما وصفه بتكهنات متشائمة تناقلتها وسائل الإعلام عن وقوع حرب.
وكان زيلينسكي قد وجه انتقادات عنيفة لزعماء غربيين، دون تسميتهم، مشيراً إلى أنهم يستغلون أزمة بلاده لتحقيق مصالح سياسية شخصية، فيما يراه محللون انتقاداً لبايدن وماكرون ورئيس وزراء بريطانيا بوريس جونسون، ولكل منهم مشاكله الداخلية، التي يبدو أنه يسعى للخروج منها عبر أزمة أوكرانيا.
فالرئيس الأوكراني يرى أن بلاده تدفع ثمن الصراع بين بوتين وبايدن. فالرئيس الروسي يتصارع على النفوذ في أوروبا في حقبة ما بعد الحرب الباردة للحصول على ضمانات أمنية من بايدن، لمنع دخول كييف إلى حلف شمال الأطلسي (الناتو)، ونشر الصواريخ بالقرب من حدود روسيا.
وترى واشنطن أن الكثير من المقترحات الروسية يستحيل قبولها، لكنها تضغط على الكرملين من أجل مناقشتها بشكل مشترك مع الولايات المتحدة وحلفائها الأوروبيين. كما نفت موسكو مراراً صحة رواية واشنطن المتعلقة بالتطورات في المنطقة، قائلة إنها حشدت قواتها بالقرب من الحدود الأوكرانية للحفاظ على أمنها ضد عدوان حلف شمال الأطلسي.
والخلاصة هنا هي أنه, لا أحد يمكنه توقع مسار الأزمة الأوكرانية، ورغم تحديد الأميركيين ليوم الغزو الروسي بتلك الصورة، فإن الهدف ربما يكون فعلاً إجهاض مخططات بوتين كما قالوا، أو قد يكون الهدف استفزاز روسيا كما يرى فريق آخر من المحللين.
العلم الإلكترونية - عربي بوست