العلم الإلكترونية - محمد بشكار
إذا كانتْ معْرِفتي بالزَّجل تتجدَّد كل يوم بهديل اليمام، فإنِّي أعرفُ الشّاعر أحمد لمسيَّح منذ الأزل، ولسْتُ أُبالغ وأنا أضع الحِقْبة الزمنية لهذه العلاقة الإبداعية في مرتبة الأبد، لأنَّ الزّمن النَّفسي الذي ترْبطُنا بالنَّص قبل الشخص، لا يخْضع لتقاويم الأيام والأعوام، أليسَ يُقال في البدء كانتِ الكلمة، ولا أسْتبعِد بناءً على هذا القول أنَّ الكلمة هي الطين الأول الذي خُلِق من حَمْأته الإنسان، ولا أسْتبعِد أيضاً أنَّ لمسيح الزَّجال، اختار من الكلمات أقرْبها إلى الألسن لِيخرُج شاعراً على الناس أجْمعين، ولِمنْ يتساءلُ أيْن وصل برسالته الزَّجلية التي لا تحتاج لطابعٍ بريدي كي تَصلني، أقولُ إنَّه ارتفع إلى "جْزِيرَة فـ السْمَا" !
أكادُ أجْزم أن لمسيَّح ما سُمِّي كذلك إلا لأنَّه لا يستطيع الانْسِلاخ عن مائه الشِّعْري، ولكن مع ثورة روحية تنْدلِع بشُعلتها لِتبْتكر أكثر من شكْل لِعُنْصر الماء، تارةً يسيح كلام لمسيَّح في موجةٍ تُغنِّي، وأخرى في دمعةٍ تخْتَصِر مُلوحَتُها البحر، ولا نعرف مَأْسُورين بِحيْرة الشَّاعر الذي يُؤثِّث الطَّبيعة بِمظْهر آخر، هل هذه الدَّمعة تقْفزُ من الأعين بِدافع حُلْو أو مُر، وقد آثر لمسيَّح في ديوانه الأخير "جْزِيرَة فـ السْمَا" (دار المناهل بالرباط/ يناير 2022)، أنْ يرتفع بروح البُوهالي الشِّعرية إلى السَّحابة، هي أيْضاً أحدُ الأشكال المائيّة، مع فرق كالنَّهر الذي يَفْصِل الأرض لِضفَّتين، أنَّ ماء الشَّاعر هذه المَرَّة حبيس سحابة مُعلَّقة في السماء، لِنقُل إنَّه في قلبها على قارعة الحريق ينتظر شوقاً، ولنْ يَجْري بِحبْره على الورق إلا حين تلْفحُها أنفاسُ الشَّاعر لِكَيْ تُمْطِر !
بينما لمسيَّح يَقْتعِد كُرْسِياً على يميني بمقرِّ الجريدة، شرَدَ ذِهْني لِيستقرَّ في الزَّمن اليساري، كمْ كُنّا على نِيَّاتنا تأسَّفْتُ في السِّر على البلد وما ضاع من العمر، كان لمسيَّح يشكو من قِلّة النوم وتِلكُم آفةٌ نشترك في أعْطابها هذه الأيام، ومِنْ أيْنَ للشاعر أن ينام ولا شيء يبشِّر بالخير ولو أسْعَف حُرْقَته بماء الشِّعْر، مِن أيْن للروح أن تهْنَأ براحة تُخلِّصُها من القلق، المُجْتمع يغْلي بكل شرائحه كمرْجل والخِناق الاقتصادي ما فتىء يَضِيق على المواطن، فكيف لا تتَّسع رُقْعة الأرَق، نَاولني لمسيَّح ديوانه الأخير عسى نَخْرج سوياً ممَّا يكتم الأنْفاس إلى طقس آخر، وقال تعالَ معي إلى "جزيرة فـ السْما"، ولأنَّه يعلم أن ظمإي يتجاوزُ أطْوَل الأنهار، مَدَّني بديوانين آخرين الأول جعلني "بْلا عنوان مْسافر" وما زلتُ بعد أنْ تَبعْتُه مفتوناً بِكرْنفال الجمال أبْحث عن درب الرجوع لبيتي، أمّا الثاني فكاد يُوقِفني عن الاستمرار في كتابة هذه المقالة لأنه يحمل عنوان "سطر واحد يكفي"، وقد صَدَق لمسيَّح وهو يُطرِّز بإبر الماء في هذا الديوان أبلغ الحِكَم، أليس قطرةُ ندى على شفة وردة أفْضل وأجمل من كل المياه التي تُحيط بالعالم !
لمسيَّح هو الصِّيغة الشِّعرية الزَّجلية المُتطوِّرة للمجْذوب، وأقْصِد الشَّاعر المغربي الصُّوفي عبد الرحمان المجذوب (1503م - 1568م)، فإذا كان هذا الأخير يَهيم على وجهه ناطقاً بما يُشْبه الوعظ والإرْشاد، فإنَّ لمسيَّح ارتدَّ لِيَهيم في المسالك الوعرة للذّات، ليس لِينْكفِىء مُسْتسلِماً لاخْتلاجاتها المُراوِحة بين مدٍّ وجَزْرٍ حسب تغيُّر المشاعر، إنَّما ليصيغ تَصوُّراً آخر للواقع أو بصيغة أوْسَع للوجود، ذلك التصوُّر الذي يُوائم بين جمالية التخييل وإيقاع الإنشاد، بل إنَّ الشاعر كما يسْتجمع رُؤاه من تفاصيل اليومي مُسْتنداً على الثقافة الشعبية، يضع نفسه في قلب العالم مُوظِّفاً أحْدَث الأشكال التي اجْتَرَحَتْها الشِّعرية العربية، كأنِّي والماء يَغْمُرني من كل ديوان، أسمع السِّياب بِصوْته الأجَش يناجي نهره الأثير "بويب" وينهمر مع قصيدة "أنشودة المطر"، يُهَيَّأ لي أحياناً أن للمخيِّلة عند لمسيَّح عضلات، وإلا من أيْن له هذه القُدْرة الاستيهامية ليجعل أيَّ جُملة شعرية يخُطُّها لا تخلو من صورة تأْسَر الألْباب، كأنَّه يُبلْوِر صِنْفاً من الأيْقُونِية للشِّعر الزَّجلي، ولَنْ أقول هو المهووس بألوان الحياة، إنَّه لا يكتب الشِّعر فقط ولكنَّه يَرْسُم باللغة التي نتكلَّمُها أجمل اللوحات!
إذا كانت ثقافتنا الشعبية تحفل بأمثال "بُويا رحّال" الذي يدَّعي أتباعُه الخُرافِيُّون أنَّهم يأْتون الخوارِق، يشربون الماء المغلي ويمضغون الزُّجاج، فثمَّة في المقابل لمسيَّح بُويا الزجّال ومِن أهمِّ خوارقه التي لا تحْتاج لِطُقوس الشَّطْح والنَّطْح، أنَّه لا يني ينْسُج بِخُيوط حواسِّه المُرْهَفة، ذلك الغِرْبال المُعْجمِي الهائل لِيسْتخْلِص من ثرْثرتنا اليوْميّة المُبْتَذَلة، ألْمَع جواهر الكلام وأقْدَرَها على تنْشيط مِخْيال ثقافتنا الشَّعبية، فما أشقَّ أنْ يعيش المَرءُ وهو يحْشُر رأسه في علَّافة كما تحْجُب الفم غير المتوقِّف عن المضْغ، تَقفُ حائلاً أيضاً أمام الأعين دونَ رؤية ما يَحُفُّنا من جمال، ذلك مُعْجمٌ لا يني الشاعر يُطرِّزُه آناء الليل والنهار، ومن خوارقه أنْ يحفَظ ذاكرتنا من الاندثار والزوال، أفلا يسْتحقُّ أنْ ننادي سي أحمد لمسيَّح لريادته "بُويا الزَّجال" !
إذا كانتْ معْرِفتي بالزَّجل تتجدَّد كل يوم بهديل اليمام، فإنِّي أعرفُ الشّاعر أحمد لمسيَّح منذ الأزل، ولسْتُ أُبالغ وأنا أضع الحِقْبة الزمنية لهذه العلاقة الإبداعية في مرتبة الأبد، لأنَّ الزّمن النَّفسي الذي ترْبطُنا بالنَّص قبل الشخص، لا يخْضع لتقاويم الأيام والأعوام، أليسَ يُقال في البدء كانتِ الكلمة، ولا أسْتبعِد بناءً على هذا القول أنَّ الكلمة هي الطين الأول الذي خُلِق من حَمْأته الإنسان، ولا أسْتبعِد أيضاً أنَّ لمسيح الزَّجال، اختار من الكلمات أقرْبها إلى الألسن لِيخرُج شاعراً على الناس أجْمعين، ولِمنْ يتساءلُ أيْن وصل برسالته الزَّجلية التي لا تحتاج لطابعٍ بريدي كي تَصلني، أقولُ إنَّه ارتفع إلى "جْزِيرَة فـ السْمَا" !
أكادُ أجْزم أن لمسيَّح ما سُمِّي كذلك إلا لأنَّه لا يستطيع الانْسِلاخ عن مائه الشِّعْري، ولكن مع ثورة روحية تنْدلِع بشُعلتها لِتبْتكر أكثر من شكْل لِعُنْصر الماء، تارةً يسيح كلام لمسيَّح في موجةٍ تُغنِّي، وأخرى في دمعةٍ تخْتَصِر مُلوحَتُها البحر، ولا نعرف مَأْسُورين بِحيْرة الشَّاعر الذي يُؤثِّث الطَّبيعة بِمظْهر آخر، هل هذه الدَّمعة تقْفزُ من الأعين بِدافع حُلْو أو مُر، وقد آثر لمسيَّح في ديوانه الأخير "جْزِيرَة فـ السْمَا" (دار المناهل بالرباط/ يناير 2022)، أنْ يرتفع بروح البُوهالي الشِّعرية إلى السَّحابة، هي أيْضاً أحدُ الأشكال المائيّة، مع فرق كالنَّهر الذي يَفْصِل الأرض لِضفَّتين، أنَّ ماء الشَّاعر هذه المَرَّة حبيس سحابة مُعلَّقة في السماء، لِنقُل إنَّه في قلبها على قارعة الحريق ينتظر شوقاً، ولنْ يَجْري بِحبْره على الورق إلا حين تلْفحُها أنفاسُ الشَّاعر لِكَيْ تُمْطِر !
بينما لمسيَّح يَقْتعِد كُرْسِياً على يميني بمقرِّ الجريدة، شرَدَ ذِهْني لِيستقرَّ في الزَّمن اليساري، كمْ كُنّا على نِيَّاتنا تأسَّفْتُ في السِّر على البلد وما ضاع من العمر، كان لمسيَّح يشكو من قِلّة النوم وتِلكُم آفةٌ نشترك في أعْطابها هذه الأيام، ومِنْ أيْنَ للشاعر أن ينام ولا شيء يبشِّر بالخير ولو أسْعَف حُرْقَته بماء الشِّعْر، مِن أيْن للروح أن تهْنَأ براحة تُخلِّصُها من القلق، المُجْتمع يغْلي بكل شرائحه كمرْجل والخِناق الاقتصادي ما فتىء يَضِيق على المواطن، فكيف لا تتَّسع رُقْعة الأرَق، نَاولني لمسيَّح ديوانه الأخير عسى نَخْرج سوياً ممَّا يكتم الأنْفاس إلى طقس آخر، وقال تعالَ معي إلى "جزيرة فـ السْما"، ولأنَّه يعلم أن ظمإي يتجاوزُ أطْوَل الأنهار، مَدَّني بديوانين آخرين الأول جعلني "بْلا عنوان مْسافر" وما زلتُ بعد أنْ تَبعْتُه مفتوناً بِكرْنفال الجمال أبْحث عن درب الرجوع لبيتي، أمّا الثاني فكاد يُوقِفني عن الاستمرار في كتابة هذه المقالة لأنه يحمل عنوان "سطر واحد يكفي"، وقد صَدَق لمسيَّح وهو يُطرِّز بإبر الماء في هذا الديوان أبلغ الحِكَم، أليس قطرةُ ندى على شفة وردة أفْضل وأجمل من كل المياه التي تُحيط بالعالم !
لمسيَّح هو الصِّيغة الشِّعرية الزَّجلية المُتطوِّرة للمجْذوب، وأقْصِد الشَّاعر المغربي الصُّوفي عبد الرحمان المجذوب (1503م - 1568م)، فإذا كان هذا الأخير يَهيم على وجهه ناطقاً بما يُشْبه الوعظ والإرْشاد، فإنَّ لمسيَّح ارتدَّ لِيَهيم في المسالك الوعرة للذّات، ليس لِينْكفِىء مُسْتسلِماً لاخْتلاجاتها المُراوِحة بين مدٍّ وجَزْرٍ حسب تغيُّر المشاعر، إنَّما ليصيغ تَصوُّراً آخر للواقع أو بصيغة أوْسَع للوجود، ذلك التصوُّر الذي يُوائم بين جمالية التخييل وإيقاع الإنشاد، بل إنَّ الشاعر كما يسْتجمع رُؤاه من تفاصيل اليومي مُسْتنداً على الثقافة الشعبية، يضع نفسه في قلب العالم مُوظِّفاً أحْدَث الأشكال التي اجْتَرَحَتْها الشِّعرية العربية، كأنِّي والماء يَغْمُرني من كل ديوان، أسمع السِّياب بِصوْته الأجَش يناجي نهره الأثير "بويب" وينهمر مع قصيدة "أنشودة المطر"، يُهَيَّأ لي أحياناً أن للمخيِّلة عند لمسيَّح عضلات، وإلا من أيْن له هذه القُدْرة الاستيهامية ليجعل أيَّ جُملة شعرية يخُطُّها لا تخلو من صورة تأْسَر الألْباب، كأنَّه يُبلْوِر صِنْفاً من الأيْقُونِية للشِّعر الزَّجلي، ولَنْ أقول هو المهووس بألوان الحياة، إنَّه لا يكتب الشِّعر فقط ولكنَّه يَرْسُم باللغة التي نتكلَّمُها أجمل اللوحات!
إذا كانت ثقافتنا الشعبية تحفل بأمثال "بُويا رحّال" الذي يدَّعي أتباعُه الخُرافِيُّون أنَّهم يأْتون الخوارِق، يشربون الماء المغلي ويمضغون الزُّجاج، فثمَّة في المقابل لمسيَّح بُويا الزجّال ومِن أهمِّ خوارقه التي لا تحْتاج لِطُقوس الشَّطْح والنَّطْح، أنَّه لا يني ينْسُج بِخُيوط حواسِّه المُرْهَفة، ذلك الغِرْبال المُعْجمِي الهائل لِيسْتخْلِص من ثرْثرتنا اليوْميّة المُبْتَذَلة، ألْمَع جواهر الكلام وأقْدَرَها على تنْشيط مِخْيال ثقافتنا الشَّعبية، فما أشقَّ أنْ يعيش المَرءُ وهو يحْشُر رأسه في علَّافة كما تحْجُب الفم غير المتوقِّف عن المضْغ، تَقفُ حائلاً أيضاً أمام الأعين دونَ رؤية ما يَحُفُّنا من جمال، ذلك مُعْجمٌ لا يني الشاعر يُطرِّزُه آناء الليل والنهار، ومن خوارقه أنْ يحفَظ ذاكرتنا من الاندثار والزوال، أفلا يسْتحقُّ أنْ ننادي سي أحمد لمسيَّح لريادته "بُويا الزَّجال" !