ولأنَّنا نعْلَم أن ثمة من يلجأ لجداول السِّحْر ليغشي في الشَّعب الأعين ويخرس الألسن، فلا حاجة لجداول الحساب نتتبَّع من خلال مُؤشِّراتها المُتدنِّية الوضعية الاقتصادية المأْزومة للقُفَّة المُعلَّقة من أذنيها في كل منزل، لا نحْتاج مع كل هذه الطلاسم السِّحْرية التي تأكل باسم الدِّين الأمْخاخ نيِّئةً، أن نفْطن إلى أن من بيدهم الحلَّ والعَقْد كانوا في جداول الحساب كسالى بحافظة ضعيفة، لذلك أخطأوا وهم يسْتظهرون عن ظهر غيب القسمة العادلة بين المواطنين اليوم، ولن ينالوا من أصواتهم في استحقاقات 2021 إلا ضرباً مبرِّحاً لا يخلو من جرح وينتهي في مزبلة التاريخ بالطَّرْح!
يَجدُرُ بالمواطن الاعتراف على مضضٍ، أنه لم ينتصر بإيثاره للصمت على الإدْلاء ولو بنأْمة صوت، وما مَبْعَثُ غيْرتي على تدنِّي الوعي السياسي للغالبية في بلدي، إلا ممَّا رأته عيني بعد أن صار التاريخ يُكتَبُ بالمُشاهدة عبر شاشات العالم، تتبَّعتُ الانتخابات الأمريكية بقلب المُتحسِّر على انهزامية من يعتقدون في الإدبار إقداماً، لقد استطاع الشعب الأمريكي بالصوت فقط أن يزيح رئيساً شعبوياً أفظع ببهلوانيته من كابوس (بوغطَّاط) الذي كتم على أنفاس الأمريكيين وباقي الشعوب لسنوات، لم يكُن ليهمَّني ما يحدث هناك في غير قارتي لولا أنِّي أشغل في مساحة ضيقة جزءا من الكل في هذا العالم، ولكن في هذه النقطة بالذات لا أخفي إعجابي بالشَّعب الأمريكي، فقد استطاع أن يغيِّر مصيره باختيار رئيس آخر فنزل مُصوِّتاً وليس نادباً بمائة مليون ناخب، ولم يمنح أغلبهم الأصوات للرئيس الجديد لأنهم موقنون أنه أفضل من سابقه الأرعن ناسج صفقات الذُّل والعار، بل أملاً فقط في تغيير واقع بآخر أكثر توازناً، فالجميع يعلم أن السياسة بكل أياديها تبقى قذرة قبل أو بعد الاغتسال!
الصَّوت أصواتٌ يدلي برأيها الأحياء، ولا يُرجَى أن تَصْدُرَ عن الأموات ولو رَجَمَ أحدهم بالغيب وادعى سماع صراخ المعذَّبين في القبور!
نحن في بلدنا لا نصوِّت إلا إذا أردنا الصراخ والعويل، لا نثق في أحدٍ وقد نسْتبدِل أنفُسَنا كارهين أنفُسَنا عوض الرئيس ونحن ننظر ببلاهة في المرآة، بل إن الدولة بدأتْ تفكِّر بجدِّية في ابتكار وردة اصطناعية للديمقراطية وتعميم إجبارية التَّصْويت، لكن أغلب المواطنين يُترجمون ثورتهم السِّلمية بالاحتفاظ بأصواتهم مبْحُوحةً في الحناجر، مِمَّا يفسح المجال شاسعاً للبيع والشِّراء في أصوات عديمي الذِّمَّة والضمير، ومن يسيء استعمال صوته ليس كمن يُجيد رفْع عقيرته سواء بالولولة أو بالغناء، وما أحوجنا اليوم مع الوضعية المأزومة التي يعيشها المواطن في شتى مناحي الحياة الاجتماعية، إلى أن نضع إرادة التغيير في أصواتنا، وشتَّان بين الأخرس ومن يدلي برأيه تصويتاً في الانتخابات، والصوت موضعه القلب إذا كان صادقاً، ومنْ كان لا يتجاوز في التعبير حنجرته لينطلق من فؤاده نابضاً بالمصلحة العامَّة، فهو بين الأصوات من أنْكرها يسُومُه الهوانَ إما نخَّاسٌ أو سائس!
لستُ مِمَّنْ يصْطفُّون مع الأرانب تأهُّباً لخوض استحقاقات هذا السباق المحفوف بالأوراق من كل الألوان، ولم يطُفْ بِخَلَدي لحظة أن أرشِّح نفسي لغير ما خُلِقتُ له في قصيدة ببحر أُحاذِرُ أن لا تنتهي بطوفان.. ولكن أحب أن أسمع بلدي يستجمع في صوتٍ واحد وحاشدٍ قِواه ليختار لحياته مصيراً آخر غير هذا الذي يجعل صانعوه من فراغ، يتعيَّشُون من فقرنا ليزدادوا فَحْشاً في مُراكمة الثروات، أريد أن نملأ الفراغ بقوة الرَّأْي الذي يقلب موازين القوى إلى كفَّة الشعب، وما أكثر ما أريد ويحدوني الأمل أن لا تبقى أصواتنا في سوق السياسة مُجرَّد نداء لاسْتجلاب الزبائن، فلم يُفْسد بلدنا سوى (برَّاحين) يبيعون مع السِّلَع المغْشوشة الوطن!
..................................
افتتاحية ملحق "العلم الثقافي" ليوم الخميس 12 نونبر 2020.