العلم الإلكترونية - بقلم عبد الله البقالي
لا جدال في أن الديمقراطية في العالم تعيش أشد مراحلها غموضا وصعوبة عبر التاريخ، إذ وجدت نفسها محاصرة بإكراهات وتحديات أفرزتها تطورات الأوضاع في العالم، وتسببت فيها إرادات تخدم مصالح معينة. فقد حاصرت جائحة كورونا الممارسة الديمقراطية في مختلف دول العالم لأكثر من سنتين، وأقنعت الناس بالضرورة الحتمية للتخلي طواعية عن العديد من الحقوق والمكتسبات، بسبب تدابير وإجراءات الإغلاق والعزل، التي ألغت حقوقا كثيرة تهم التنقل والتجول والتعبير والاختيار. وانتهزتها بعض الأنظمة السياسية المغلقة فرصة لتثبيت اختياراتها المعادية للديموقراطية. وما أن خفت حدة الأزمة الصحية العالمية، وما أن بدأ التطلع إلى الانعتاق من الظروف الاجتماعية والاقتصادية والسياسية الصعبة جدا التي فرضتها الأزمة، حتى اندلعت شرارة حرب تكاد تكون كونية بين القوى العظمى المتحكمة في مجريات النظام العالمي، لتجد قضية الديمقراطية وحقوق الانسان نفسها مرة أخرى، محاصرة بقرارات وباختيارات منافية لمبادئها ولشروطها. إن الحملة الإعلامية الحادة والعنيفة المرافقة لمجريات الحرب فرضت تشكيل رأي عام دولي خاضع لإرادة المتسببين في الحرب والمشاركين فيها، وساهمت الحرب الإعلامية الموازية، بما حفلت به من معلومات مضللة في خضوع جزء كبير من الرأي العام الدولي لما تسوق له الأطراف المعنية مباشرة بهذه الحرب القذرة. ولم يعد بإمكان الأفراد والجماعات تشكيل قناعاتهم الخاصة المرتكزة على المعلومات الصحيحة والمعطيات الدقيقة بصفة مستقلة وعن طواعية غير خاضعين لأية تأثيرات. وبالتالي لا غرو في القول اليوم إن الرأي العام الدولي، أو جزءا هاما منه على الأقل، أضحى ضحية سهلة المنال للتسويق الإعلامي الذي يسلب الحق في تكوين قناعة معينة وتشكيل رأي وإعلان موقف مستقل. وهذا يندرج في عمق إفراغ الديمقراطية من محتواها.
إن حالة اللايقين السائدة في مختلف أرجاء العالم، وعدم القدرة على التنبؤ بما قد يحدث في المستقبل القريب أو البعيد، زادت من حدة تضخم التهديدات المحدقة بالديمقراطية، مما وضع العالم في مسار غامض يترتب عنه القلق والخوف مما هو قادم، وهذا ساهم إلى حد بعيد في ضعف القدرة على حسن الاختيار والقرار في اللحظة المناسبة لذلك، وهكذا أصبح من المسلم به أن الانتخابات كآلية ديموقراطية حاسمة تعكس إرادة الناخبين لم تعد قادرة على إفراز مؤسسات تمثيلية وتنفيذية قوية وفاعلة ومستقلة بإرادتها. ففي كثير من التجارب الديمقراطية المتقدمة لم تنجح الديمقراطية حتى في إفراز سلطات تنفيذية، وبقي بعضها لمدد طويلة بدون حكومات، واضطرت أخرى إلى إعادة الانتخابات أكثر من مرة في أفق إفراز أغلبية حاسمة، دون جدوى. ثم إن ظاهرة تنامي الحركات الشعبوية في كثير من التجارب الديمقراطية تسببت في إفراغ الديمقراطية من محتواها، اذ تفوقت في توظيف ارتفاع معدلات انعدام الثقة في الاختيارات السياسية والاقتصادية والاجتماعية السائدة وما ترتب عنها من تداعيات سلبية على أوضاع الناس، لتفرض نفسها كبديل عن التنظيمات السياسية التقليدية التي كانت تستند إلى البرامج والرؤى المستقبلية، لكنها لم تعد كما كانت عليه في السابق وأنهكها العياء والتراخي وانغلاق مسالك التجديد في أجهزتها، وهكذا أضحى بإمكان فصيل معين معاد للمهاجرين مثلا اكتساح صناديق الاقتراع والوصول إلى سدة الحكم، بمعنى أن الحسم في اختيارات ديمقراطية أضحى مقتصرا على ردود فعل الأشخاص على قضية ما أو ظاهرة معينة أو حدثا محددا. وهنا يتعلق الأمر بطبقة سياسية جديدة وافدة على الحياة السياسية معادية لأصول الديمقراطية، وهم بذلك طغاة جدد يتنكرون بألبسة وأقنعة ديمقراطية لمحاربة الديمقراطية نفسها، وهم في حقيقة الأمر أعداء لها، مدمرين لقواعدها ولمبادئها.
ثم إن تلاشي الثقة في المؤسسات السياسية التقليدية يضع الديمقراطية في حالة تيه غير مسبوقة تماما، لأنه يفضي إلى حالة الفراغ، ما دامت جهود ومخططات تدمير هذه المؤسسات لا يطرح ولا يقدم بدائل فعالة، لأنها ليست موجودة أصلا. وفي تقديرنا فإن أخطر ما يهدد الديمقراطية يكمن في تجريد المؤسسات، من أحزاب وبرلمانات وحكومات وجماعات ترابية وهيآت مهنية تمثيلية من محتواها وعزلها عن المواطنين وعن المجتمع، وتقديمها كمراتع للفساد، والناشطين فيها كانتهازيين وفاسدين، لأن ذلك يقود في نهاية المطاف إلى الحكم المطلق سواء من طرف شخص حاكم أو جماعات متطرفة أو ذات مصالح اقتصادية ومالية تسعى إلى الهيمنة على الحكم. وربما يكون الهدف من وراء مخططات تجريد المؤسسات من الثقة، هو تعبيد الطريق لأعداء الديمقراطية.
ثم إن النفاق الغربي بالخصوص تعاطيه مع سيادة الديمقراطية في العالم يمثل أحد أخطر معاول هدم الممارسة الديمقراطية، لأنه يخضع علاقات الدول العظمى مع وجود الديمقراطية من عدمها إلى خدمة أجندات استراتيجية واقتصادية صرفة، ولهذا لا غرابة في أن نرى الغرب يتعامل بمكاييل متعددة مع حالات ممارسة الديمقراطية في العالم، ومع درجات الرضوخ والخنوع للإملاءات الخارجية. وهكذا فإن شعارات الديمقراطية المرفوعة في الغرب ليست صالحة في سياسة هذا الغرب لجميع شعوب العالم.
لذلك كله وغيره كثير، فإن الديمقراطية تعيش أتعس أيامها الحالكة في الزمن الحالي.
لا جدال في أن الديمقراطية في العالم تعيش أشد مراحلها غموضا وصعوبة عبر التاريخ، إذ وجدت نفسها محاصرة بإكراهات وتحديات أفرزتها تطورات الأوضاع في العالم، وتسببت فيها إرادات تخدم مصالح معينة. فقد حاصرت جائحة كورونا الممارسة الديمقراطية في مختلف دول العالم لأكثر من سنتين، وأقنعت الناس بالضرورة الحتمية للتخلي طواعية عن العديد من الحقوق والمكتسبات، بسبب تدابير وإجراءات الإغلاق والعزل، التي ألغت حقوقا كثيرة تهم التنقل والتجول والتعبير والاختيار. وانتهزتها بعض الأنظمة السياسية المغلقة فرصة لتثبيت اختياراتها المعادية للديموقراطية. وما أن خفت حدة الأزمة الصحية العالمية، وما أن بدأ التطلع إلى الانعتاق من الظروف الاجتماعية والاقتصادية والسياسية الصعبة جدا التي فرضتها الأزمة، حتى اندلعت شرارة حرب تكاد تكون كونية بين القوى العظمى المتحكمة في مجريات النظام العالمي، لتجد قضية الديمقراطية وحقوق الانسان نفسها مرة أخرى، محاصرة بقرارات وباختيارات منافية لمبادئها ولشروطها. إن الحملة الإعلامية الحادة والعنيفة المرافقة لمجريات الحرب فرضت تشكيل رأي عام دولي خاضع لإرادة المتسببين في الحرب والمشاركين فيها، وساهمت الحرب الإعلامية الموازية، بما حفلت به من معلومات مضللة في خضوع جزء كبير من الرأي العام الدولي لما تسوق له الأطراف المعنية مباشرة بهذه الحرب القذرة. ولم يعد بإمكان الأفراد والجماعات تشكيل قناعاتهم الخاصة المرتكزة على المعلومات الصحيحة والمعطيات الدقيقة بصفة مستقلة وعن طواعية غير خاضعين لأية تأثيرات. وبالتالي لا غرو في القول اليوم إن الرأي العام الدولي، أو جزءا هاما منه على الأقل، أضحى ضحية سهلة المنال للتسويق الإعلامي الذي يسلب الحق في تكوين قناعة معينة وتشكيل رأي وإعلان موقف مستقل. وهذا يندرج في عمق إفراغ الديمقراطية من محتواها.
إن حالة اللايقين السائدة في مختلف أرجاء العالم، وعدم القدرة على التنبؤ بما قد يحدث في المستقبل القريب أو البعيد، زادت من حدة تضخم التهديدات المحدقة بالديمقراطية، مما وضع العالم في مسار غامض يترتب عنه القلق والخوف مما هو قادم، وهذا ساهم إلى حد بعيد في ضعف القدرة على حسن الاختيار والقرار في اللحظة المناسبة لذلك، وهكذا أصبح من المسلم به أن الانتخابات كآلية ديموقراطية حاسمة تعكس إرادة الناخبين لم تعد قادرة على إفراز مؤسسات تمثيلية وتنفيذية قوية وفاعلة ومستقلة بإرادتها. ففي كثير من التجارب الديمقراطية المتقدمة لم تنجح الديمقراطية حتى في إفراز سلطات تنفيذية، وبقي بعضها لمدد طويلة بدون حكومات، واضطرت أخرى إلى إعادة الانتخابات أكثر من مرة في أفق إفراز أغلبية حاسمة، دون جدوى. ثم إن ظاهرة تنامي الحركات الشعبوية في كثير من التجارب الديمقراطية تسببت في إفراغ الديمقراطية من محتواها، اذ تفوقت في توظيف ارتفاع معدلات انعدام الثقة في الاختيارات السياسية والاقتصادية والاجتماعية السائدة وما ترتب عنها من تداعيات سلبية على أوضاع الناس، لتفرض نفسها كبديل عن التنظيمات السياسية التقليدية التي كانت تستند إلى البرامج والرؤى المستقبلية، لكنها لم تعد كما كانت عليه في السابق وأنهكها العياء والتراخي وانغلاق مسالك التجديد في أجهزتها، وهكذا أضحى بإمكان فصيل معين معاد للمهاجرين مثلا اكتساح صناديق الاقتراع والوصول إلى سدة الحكم، بمعنى أن الحسم في اختيارات ديمقراطية أضحى مقتصرا على ردود فعل الأشخاص على قضية ما أو ظاهرة معينة أو حدثا محددا. وهنا يتعلق الأمر بطبقة سياسية جديدة وافدة على الحياة السياسية معادية لأصول الديمقراطية، وهم بذلك طغاة جدد يتنكرون بألبسة وأقنعة ديمقراطية لمحاربة الديمقراطية نفسها، وهم في حقيقة الأمر أعداء لها، مدمرين لقواعدها ولمبادئها.
ثم إن تلاشي الثقة في المؤسسات السياسية التقليدية يضع الديمقراطية في حالة تيه غير مسبوقة تماما، لأنه يفضي إلى حالة الفراغ، ما دامت جهود ومخططات تدمير هذه المؤسسات لا يطرح ولا يقدم بدائل فعالة، لأنها ليست موجودة أصلا. وفي تقديرنا فإن أخطر ما يهدد الديمقراطية يكمن في تجريد المؤسسات، من أحزاب وبرلمانات وحكومات وجماعات ترابية وهيآت مهنية تمثيلية من محتواها وعزلها عن المواطنين وعن المجتمع، وتقديمها كمراتع للفساد، والناشطين فيها كانتهازيين وفاسدين، لأن ذلك يقود في نهاية المطاف إلى الحكم المطلق سواء من طرف شخص حاكم أو جماعات متطرفة أو ذات مصالح اقتصادية ومالية تسعى إلى الهيمنة على الحكم. وربما يكون الهدف من وراء مخططات تجريد المؤسسات من الثقة، هو تعبيد الطريق لأعداء الديمقراطية.
ثم إن النفاق الغربي بالخصوص تعاطيه مع سيادة الديمقراطية في العالم يمثل أحد أخطر معاول هدم الممارسة الديمقراطية، لأنه يخضع علاقات الدول العظمى مع وجود الديمقراطية من عدمها إلى خدمة أجندات استراتيجية واقتصادية صرفة، ولهذا لا غرابة في أن نرى الغرب يتعامل بمكاييل متعددة مع حالات ممارسة الديمقراطية في العالم، ومع درجات الرضوخ والخنوع للإملاءات الخارجية. وهكذا فإن شعارات الديمقراطية المرفوعة في الغرب ليست صالحة في سياسة هذا الغرب لجميع شعوب العالم.
لذلك كله وغيره كثير، فإن الديمقراطية تعيش أتعس أيامها الحالكة في الزمن الحالي.