باعدت السياسة بينهم لمسافات طويلة، وفرقت بينهم المصالح الاقتصادية، واحتدم بينهم الصراع حول النفوذ في العديد من مناطق العالم. وكاد الرأي العام يستسلم لقناعة ثابتة، فحواها أنه لم يعد هناك ما يجمع بين الكبار الأقوياء في العالم، بعدما وصل مستوى الخلافات والتباينات إلى مواجهات مسلحة تخوضها بعض الأطراف نيابة عن القوى الكبرى الحقيقية، التي تتحاشى لحد الآن المواجهة المباشرة، ربما لأنها تدرك أنها ستكون النهاية التي لا يرغب فيها أحد من هذه الأطراف، وأنه لن يكون هناك منتصر، ولكن المؤكد أنه سيكون هناك منهزمون.
لكن وبصفة مفاجئة شد مسؤولو أكثر من 28 دولة، وعشرات من ممثلي الشركات التكنولوجية العملاقة الرحال إلى مدينة بليتشي في بريطانيا بدعوة من رئيس وزرائها للاجتماع في قمة، قيل إنها بحثت السلامة في استعمالات الذكاء الاصطناعي.
ويبدو أنه تم اختيار مكان انعقاد هذه القمة بدقة متناهية، لأن مدينة بيلتشي البريطانية كانت تحتضن مركز فك الشفرات خلال الحرب العالمية الثانية، وهم جاؤوها هذه المرة في محاولة لفك شفرات الذكاء الاصطناعي المتطور.
ومن حيث المبدأ، لم يكن طبيعيا ولا مستساغا أن تجالس جمهورية الصين الولايات المتحدة الأمريكية ودول الاتحاد الأوروبي، للتوقيع على تفاهم ما، بسبب التطاحن العنيف الذي يجري بين هؤلاء في السياسة كما في الاقتصاد كما على مد النفوذ في العالم، ولكنهم هذه المرة جلسوا وأنصتوا إلى بعضهم البعض، وخلصوا في زمن قياسي إلى اتفاق، ربما لإدراكهم أن التهديد الكبير الذي يحدق بهم لن يفرق بين الجنسيات ولا الملل ولا الديانات ولا الألوان، وهكذا وقعوا في سابقة خلال العقود الماضية بنفس الحبر، وعلى نفس الوثيقة، على ما سموه بـ"إعلان بليتشي، من أجل تطوير آمن للذكاء الاصطناعي" وقيل إن الهدف منه يكمن "في وضع ناظم عالمي للذكاء الاصطناعي وإيجاد إطار عمل لتقييم الأخطار بصفة جماعية" في أفق صياغة اتفاقية دولية وإنشاء جهاز عالمي يتكفل بالتقييم والمتابعة.
ما الذي أقنع الكبار المختلفين والمتصارعين على أن يضعوا كل خلافاتهم وأسلحتهم جانبا ويجلسون على طاولة واحدة في هذه الظروف الدقيقة والصعبة التي يجتازها العالم؟
الجواب في غاية البساطة، ويكمن في أنهم استشعروا حقيقة الأخطار المحدقة بالتطور المهول في برمجيات الذكاء الاصطناعي، والذي سيقود بالضرورة إلى حالة انفلات تهدد مصير الكون برمته، خصوصا وأن المجتمع الدولي يفتقد إلى تشريعات وطنية أو عالمية، وأن الأمر متروك لتقديرات الحكومات القطرية و للفاعلين المتخصصين الذين قد يقودهم هوس مراكمة الأرباح المالية إلى ما من شأنه أن يسرع بنهاية محتملة للعالم المعاصر.
تخيفهم الأخطار والتهديدات التي يلقي بها التطور في مجال الذكاء الاصطناعي، لأنهم يدركون ويقتنعون أن له نماذج جديدة ومتجددة توفر فرصا كبيرة وسانحة للمجموعات الإرهابية، للإعداد لهجمات كيماوية وتنفيذها في المواقع التي ينتقونها بدقة، وجعل الهجمات السيبرانية ممكنة على نطاق واسع وبفعالية لا حدود لها، وأنها تمكن المجموعات الصغيرة والكبيرة من فرص لا حدود لها للتلاعب بالرأي العام وشحنه بالمحتويات التي تخدم مصالح معينة، قد يكون كثير منها سياسيا واقتصاديا وعسكريا، ولكن قد يكون بعضها الآخر أيضا قيميا واجتماعيا، وأيضا تتيح الانفلات مما رسموه بدقة وخططوا له بإتقان فيما يتعلق بالسيطرة البشرية، ناهيك عن تداعيات أخرى مترتبة بصفة تلقائية عن تطور هذه النماذج، تتعلق بارتفاع معدلات البطالة والفقر والهشاشة الاجتماعية.
وإجمالا، فإنهم تنازلوا عن أنانياتهم المفرطة التي تصرفوا بها في باقي مختلف القضايا التي تهم البشرية، لأنهم يعون جيدا حجم التهديدات والأخطار التوليدية والمتجددة المتقدمة جدا والتي لا يمكن لأي أحد أو جهة اليوم، معرفة طبيعتها ولا أعدادها ولا حدود تأثيراتها. لذلك شدوا حقائبهم على وجه السرعة إلى مدينة تتوافق أبعادها الجغرافية مع ما هم بصدده للاتفاق على فك شفرات ما قد يكون قادرا على مواجهة التحديات المنتظرة والمتوقعة.
والواضح، أنهم رغم توقيعهم على وثيقة مرجعية كخطورة أولى في مسار هذه المواجهة المنتظرة والتي ستمتد في الزمان، فإنهم لا يزالون في حالة ارتباك. فمنهم من يسارع الوقت لإنشاء معهد متخصص لدراسة ورصد وتقييم ما يتولد عن الذكاء الاصطناعي، كما هو عليه الحال بالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا، بينما يطالب الآخرون، خصوصا من دول القارة العجوز بأهمية تشكيل مجموعة خبراء عالمية تشرع في العمل بإنجاز تقرير مفصل حول أخطار الذكاء الاصطناعي كعملية تشريح ضرورية قبل الانتقال إلى مرحلة العلاج من خلال حلول فعالة، بيد أن فريقا ثالثا يقترح البداية بتجميع وحصر نماذج الذكاء الاصطناعي في سجل واحد في محاولة لضبطها والتحكم في إمكانيات تطورها.
ومع ذلك، فإن هذا الاتفاق بين الكبار يخفي في طياته تنافسا مستترا بين الولايات المتحدة الأمريكية والصين اللتين تستحوذان على الجزء الكبير من التكنولوجيات الحديثة، وهي الحاضنة الرئيسية للأخطار التي يجري الحديث عنها، ويقع التخطيط لمواجهتها.
وفي هذا الصدد، هناك من ينبه إلى الخطورة البالغة التي يكتسيها تمكن هاتين القوتين الكبيرتين من تركيز وتجميع الصلاحيات والسلط والبرامج المتعلقة بالذكاء الاصطناعي والأخرى التي تهم ترشيد هذا الذكاء وجعله آمنا في أياديها، ويطالبون بحتمية التعدد والتنوع.
هكذا حينما تقتضي مصالحهم الاقتصادية والاستراتيجية الجلوس على طاولة البحث عن حلول، لا يترددون ولا يتأخرون، لكن حينما يتعلق الأمر بالأوضاع الإنسانية في العالم، وبإيقاف الحروب الفتاكة التي تمارس فيها إبادة البشرية، فإنهم يتضرعون بالخلافات وتباين التقديرات، وإن اقتضى الأمر تعطيل الشرعية الدولية إلى حين انتهاء المجرمين من تنفيذ جرائمهم ضد الإنسانية.