Quantcast
2021 يونيو 28 - تم تعديله في [التاريخ]

صعود الشعبوية ومخاطر موت الديمقراطية


العلم الإلكترونية - بقلم عادل بنحمزة

لقد شكلت المفاهيم السياسية مثل الدولة والنظام والشعب والأمة والجمهورية...، أدوات أساسية ومركزية في تحليل الواقع الاجتماعي، غير أن بروز الثورة الصناعية،وصعود القيم الرأسمالية،وتحررها من الاقطاع والسلطة السياسية التي تشكلت في ظلها بدعم من الكنيسة، جعل منها كما يقول إيل ديو - ساسيلو "قاعدةً" جديدة للتنظيم الاجتماعي، ما نتج عنه تغيير البراديغما السياسية ببراديغما اقتصادية واجتماعية، فتحت المجال لمصطلحات ومقولات جديدة لتحليل الواقع الاجتماعي، مثل الطبقات الاجتماعية والثروة والصراع الطبقي، والبورجوازية والبروليتاريا، والنقابات والإضرابات، والتفاوتات وإعادة التوزيع.. 
 
الجديد اليوم هو أن هذه المفاهيم نفسها، على الأقل منذ حوالي أربعة عقود، لم تعد تملك القدرة على تفكيك الواقع الذي تعيشه الإنسانية، في ظل هذا الفراغ المفاهيمي،والعجز عن الإحاطة بالتعقيدات المتسارعة التي تحيط بنا، إذ برزت قضايا الثقافة والنزوعات الاثنية والعرقية والهويات المغلقة أو القاتلة بتعبير أمين معلوف، حيث أصبحت هي من يملأ الساحة بشكل متزامن بين العالم الغربي، الذي طالما نُعت بالعالم الحر والديمقراطي من خلال بروز الجماعات اليمينية المتطرفة والتيارات الشعبوية يمينا ويسارا، أو في باقي بقاع العالم التي تعيش وعاشت لعقود، على وقع الصراعات الدينية والمذهبية والاثنية والقبلية، ومنها منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا التي برزت فيها تيارات الإسلام السياسي،وأيضا الخصوصيات اللغوية والثقافية والمناطقية والطائفية، كل هذه التعبيرات تمثل مرحلة انتقال من زمن ما بعد السياسي والاقتصادي، إلى مرحلة جديدة غير واضحة المعالم، لكنها تنطوي على مخاطر كبيرة. 
 
في الولايات المتحدة الأمريكية التي تمثل نموذجا للعالم الحر، وخاصة بعد الأربعاء الأسود الذي شهد اقتحام مقر الكونغرس الأمريكي، بدا أن هناك شكلا من أشكال التحالف أو التوظيف المتبادل بين تيار شعبوي صاعد على يمين الحزب الجمهوري، الذي يمثل "دونالد ترامب" علامته البارزة، وبين تيارات يمينية متطرفة لها جذور طويلة في المجتمع الأمريكي منذ حركة الحقوق المدنية بين 1954 و 1968، إذ أن أبرز حركات اليمين المتطرف التي تحالفت مع ترامب، ليست في النهاية سوى امتداد للحركات المتطرفة التي ناهضت حقوق الأمريكيين من أصول إفريقية والملونين، ودافعت عن ذلك بسرديات عنصرية تعتقد بتفوق الجنس الأبيض، وهي ذات السرديات التي يعاد إنتاجها اليوم، هذا الظهور الجديد لهذه الحركات يأتي في أعقاب الزلزال الذي خلفته الأزمة الاقتصادية والمالية لسنة 2008، وفي عجز منظومة الحكم في الولايات المتحدة على صيانة "الحلم الأمريكي" بعد أن سيطرت الرأسمالية المتوحشة وتصاعدت الفوارق في المجتمع، ما جعل ملايين الأمريكيين على هامش الدورة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، فكانت الخطابات اليمينية العنصرية والدينية المتطرفة ملاذا لكثيرين، لم يكن ينقصهم سوى شخصيات/أيقونات للبروز إلى الواجهة والتعبير عن رفض مؤسسة الحكم "الاستبلشمنت" والأوليغارشية السياسية والاقتصادية الحاكمة في واشنطن، وضم ذلك المزيج من الساخطين السود واللاتينيين والمهاجرين بصفة عامة. 
 
 ما حدث في الولايات المتحدة الأمريكية أوقع كثيرين في الإلتباس خاصة لجهة المهتمين بصعود التيارات الشعبوية في العالم،وخطر ذلك على الديمقراطية التمثيلية، فالأكيد أن ما يحدث أمامنا اليوم هو تحالف بين طرفين يجب التمييز بينهما، فمن جهة نجد الشعبوية ممثلة في ترامب، ومن جهة أخرى نجد الجماعات اليمينية. تقوم ضرورة هذا التمييز عندما نعلم أن الشعبوية في الجوهر هي نمط من السياسات الأخلاقية، إذ إن التمييز بين النخبة والشعب هو أولا وأخيرا أخلاقي (أي النقاء مقابل الفساد)، فالشعبوية تنطوي على نظرة مانوية للعالم تقسم الفضاء الاجتماعي إلى معسكرين متعارضين: "الشعب" الأخلاقي ومؤسسة الحكم الفاسدة كما تقول ناديا أوربيناتي، إذ لا يقوم التمييز على جانب ظرفي يرتبط بالموقف من السلطة، أو اجتماعي ثقافي يقوم على الفوارق الإثنية أو الدينية، أو اجتماعي اقتصادي يقوم على الفوارق الطبقية، كما يؤكد كل من کاس مودیه، وکریستوبال روفيرا كالتواسير، فالهدف النهائي للشعبويين واليمين المتطرف مختلف ومتمايز، وأي خلط أو اعتقاد بوجود نوع من التطابق الكامل بينهما، إنما يساهم في تضليل التحليل الذي يسعى إلى فهم ما يجري على الساحة الأمريكية منذ سنوات،وهو ما يمكن إسقاطه أيضا على تجارب أخرى خاصة في القارة الأوربية . 
 
بالتأكيد ليست أمريكا فقط هي التي تواجه تراجع الديمقراطية وتصاعد العداء لها بشعارات ومبررات مختلفة، ولكن ذلك يمثل موجة عالمية متصاعدة منذ انهيار جدار برلين، كما أن ترامب ليس سببا فيما تعرفه أمريكا منذ سنوات، بل هو نتيجة لمسار طويل من التراجعات التي كانت موضوع كتابات وازنة منها كتاب ستيفن ليفيتسكي ودانييل زيبالت "كيف تموت الديمقراطيات"، واللذين أكدا فيه أن التاريخ أثبت في معظم الحالات " أن الديمقراطيات تموت ببطء لا يكاد يلاحظه أحد إذ إنها" تفسد بسبب القادة الذين يسيئون استغلالها"، وأن أرض الديمقراطية الخصبة تخضع للتجريف لمدة طويلة، كما أن مجلة الديمقراطية Journal of Democracy التي تأسست سنة 1990، اختارت مسألة تراجع الديمقراطية موضوعاً لعدد خاص أصدرته بمناسبة مرور ربع قرن على إنشائها، ثم نشرته سنة 2015 ككتاب جماعي تناول مجموعة من القضايا التي تهم واقع ومستقبل الديمقراطية في العالم والولايات المتحدة الأمريكية، بين متفائل بمساراتها المستقبلية وبين متشائم بتلك المسارات. 
 
الأحداث الجارية اليوم توضح حجم التفاؤل والتشاؤم، معززا بآخر التقارير الدولية حول الديمقراطية في العالم والتي تخلص إلى حقيقة تراجع قيمها، في مقابل بروز بعض مظاهرها مثل الانتخابات، فعلى الرغــم مــن أن الانتخابــات أصبحــت هــي القاعــدة وليــس الاســتثناء، فــإن الكثـيـر مــن الأنظمــة غيــر الديمقراطيــة، كما أكدت المؤسسة الدولية للديمقراطية والانتخابات في تقريرها حول الحالة العالمية للديمقراطية لسنة 2019، تســتخدمها فقط كوســيلة لإضفــاء الشرعية الداخليــة والخارجيــة. وفي البلــدان التــي تحكمهــا أنظمــة هجينــة أو غـيـر ديمقراطيــة، حسب ذات التقرير، فإن دور الانتخابـات يقتصر على تعزيـز الواجهـة الديمقراطيـة. وهـذا التشـويه للمبـادئ الانتخابيـة لأغـراض غيـر ديمقراطيـة يسـاهم في تقويـض ثقـة الجمهـور بقيمـة العمليـة الانتخابيـة في البلـدان الديمقراطيــة كما يخلص التقرير لذلك.
 

              

















MyMeteo



Facebook
YouTube
Newsletter
Rss

الاشتراك بالرسالة الاخبارية
أدخل بريدك الإلكتروني للتوصل بآخر الأخبار