العلم - بقلم عبد الله البقالي
لم يعد الحديث عن نهاية محتملة للعولمة يقتصر على المعارضين المتشددين لها، بل بدأت مساحة هذا الانشغال العميق تتسع وتتمدد بصفة تدريجية، وهذا ما يتجلى على الأقل في الاهتمام الكبير الذي بدأت توليه لها أوساط عالمية و جهوية متخصصة، ووسائل إعلام غربية تميز خطها التحريري على الدوام، بالدفاع عن اقتصاد السوق وعلى فعالية العولمة في تحقيق التطور والنمو بالعالم .
ويلاحظ من خلال تصاعد احتدام النقاش حول مصير العولمة في ظل التطورات الهائلة و العميقة، التي عرفها العالم خلال السنوات القليلة الماضية ، وجود مؤشرات كثيرة تدل على دخول العالم مرحلة جديدة تتعرض خلالها فكرة العولمة إلى ارتدادات و هزات، إن لم يكن الأمر يتعلق ببداية فعلية لنهاية هذه الظاهرة، التي مثلت الإطار المرسوم بدقة للأنشطة الاقتصادية و التجارية العالمية طيلة العقد الأخير، حيث تأكد أنها عاجزة فعلا عن الصمود في أزمنة الأزمات و الهزات، و ألا أحد كان يتصور أنها بكل هذه الهشاشة خلال اجتياز مراحل الصعوبات. و يمكن القول في هذا الصدد إن العولمة تعرضت خلال السنوات القليلة الماضية إلى أربع ضربات عنيفة جدا. بدأت أولاها بانسحاب المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي بما عرف ب (البريكست) في حينه، وفي انتخاب الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب على رأس أقوى دولة اقتصادية في العالم . و هكذا اعتبرت قضية (البريكست) عنوانا لمرحلة جديدة في اقتصاد السوق، الذي انتقل من نظام التكتلات الاقتصادية الى التعاون الاقتصادي الثنائي . في حين فإن انتخاب ترامب على رأس الإدارة الأمريكية أشر من خلال برنامجه الاقتصادي على إعادة الاعتبار لمفهوم الدولة القطرية. وتمثلت ثاني الضربات فيما فرضته جائحة كوفيد 19 من حقائق جديدة و ما خلفته من تداعيات. حيث ما أن وجدت البشرية نفسها في مرحلة حرجة جدا، بعد استفحال الجائحة و انطلاقها في الفتك بالأرواح البشرية، حتى تهاوى ما ادعته العولمة من قيم جديدة، من تضامن وتعاون وتكامل بين البشر فوق الكرة الأرضية، وأن العيش المشترك في عالم واحد كفيل بمواجهة الأزمات الصعبة كافة. حيث توارت العولمة إلى الخلف في مراتب جد متخلفة فاسحة المجال مرة أخرى أمام قدرات الدولة القطرية في مواجهة الأزمات المستفحلة، وانقطعت سبل التعاون الجماعي بشكلٍ نهائى، وفرضت تدابير الإغلاق والعزل و وقف سلاسل الانتاج والتسويق نفسها على جميع الدول، وبذلك تعرضت العولمة الى انتكاسة حقيقية ، أو لنقل إنها تجلت في حقيقتها التي كانت مبطنة في شعارات رنانة، كان الهدف منها التسويق والإغراء والتعتيم عن الأهداف الحقيقية .
أما الضربة الثالثة التي كشفت الوجه الحقيقي للعولمة، فتجسدت في اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية في عمق القارة العجوز .و بغض النظر عن الأساليب التي استعملت بخبث كبير فيما يتعلق بتوظيف الاقتصاد لخدمة أغراض عسكرية في مواجهة مباشرة بين القوى المتنفذة في العالم، من قبيل فرض العقوبات الاقتصادية وتوقيف سلاسل التسويق والتصدير، فإن الحقيقة الساطعة التي كشفتها هذه الحرب، أن العولمة الاقتصادية ليست بتلك القوة التي تمكنها من مواجهة أزمنة الأزمات الحادة، وأنها مجرد قنوات لصرف السياسات الاقتصادية بما يخدم مصالح معينة، وأنها تتهاوى وتندثر حينما يختلف الكبار وتتضارب مصالحهم وتتباين حساباتهم الجيو استراتيجية.
ورابع الضربات تجسد في تشكيل التقاطبات العالمية الجديدة التي عرفها العالم، مما أشر على مرحلة مخاض حقيقية يعيشها النظام العالمي التقليدي الذي لم يعد يمتلك قوته الاقتصادية و العسكرية المعهودة، و أن هناك تقاذفا سياسيا و اقتصاديا جديدا ناشئا يضم الخصوم التقليديين للقطب العالمي الأحادي المعلوم، ولكنه يضم أيضا حلفاء جدد من القارات الخمس جمع بينهم تمردهم على النظام العالمي الأحادي القطبية، ويؤكد المنحى التصاعدي المتسم بحدة الخلافات والتباينات بين هذه التقاطعات أن العالم بصدد حفر قبر عميق للعولمة .
ليس هذا فقط، بل لم تتردد أوساط اقتصادية عالمية وقارية في إطلاق العنان لتهم كثيرة للعولمة، ذلك أن صندوق النقد الدولي، الذي يعتبر أحد أهم المختبرات التي صنعت العولمة ، نفسه لم يتردد في القول في تقرير أصدره في نهاية الثلث الأول من السنة الجارية إنه ( يفترض أن العولمة تساعد على دعم النمو الاقتصادي من خلال قنوات متعددة، إلا أنه لا يوجد حتى الآن أي دليل قوي على أن هذه العلاقة العارضة تتحقق بقدر مهم) ، في حين لم تتوان جهات أخرى في التأكيد على أن العولمة مسؤولة بصفة رئيسية عن التغيرات المناخية المضرة التي اجتاحت الكون .
شظايا كثيرة تطايرت من اشتعال النيران حول العولمة، ذلك أن الاتجاه العام في النظام الاقتصادي العالمي يسير بسرعة كبيرة نحو اعتماد التعاون الثنائي والجهوي بين الدول في مختلف المجالات الاقتصادية، بسبب ضعف منسوب انعدام اليقين في النظام العالمي الاقتصادي السائد، كما أن كثيرا من الدول قررت فرض ضرائب جديدة على العديد من المواد المستوردة، و لم يقتصر الأمر على الحرب الدائرة في هذا الإطار بين الصين و الولايات المتحدة ، بل نلاحظ أيضا أن الاتحاد الاوروبي بدوره فرض جبايات جديدة على مواد مستوردة ، من قبيل الحديد والألمنيوم و الأسمدة و الأسمنت، ناهيك على أن منظمة التجارة العالمية نفسها لم تتردد في الاعتراف قبل أيام قليلة من اليوم، بأن حجم التبادل التجاري بين الدول سينتقل من 0,8 بالمائة سنة 2023 إلى 3,3 سنة 2024، بما يؤكد على إحجام دول العالم عن العولمة و اعتمادها على التبادل التجاري الثنائي أو في إطار التكتلات. يضاف إلى كل ذلك ملاحظة التراجع المتواصل للمؤشرات التقليدية للعولمة خصوصا ما يتعلق بتدفق رؤوس الأموال و التجارة والهجرة .
هكذا لم نعد في حاجة إلى بذل كثير جهد للتأكيد على أن العولمة تجتاز أكثر مراحل عمرها صعوبة و خطورة، إذا لم نجزم بالقول، إنها توجد في غرفة الإنعاش المركز قد تنتقل بعدها إلى فترة الموت السريري، إنها فعلا بداية نهاية العولمة كغلاف اقتصادي للكون .
لم يعد الحديث عن نهاية محتملة للعولمة يقتصر على المعارضين المتشددين لها، بل بدأت مساحة هذا الانشغال العميق تتسع وتتمدد بصفة تدريجية، وهذا ما يتجلى على الأقل في الاهتمام الكبير الذي بدأت توليه لها أوساط عالمية و جهوية متخصصة، ووسائل إعلام غربية تميز خطها التحريري على الدوام، بالدفاع عن اقتصاد السوق وعلى فعالية العولمة في تحقيق التطور والنمو بالعالم .
ويلاحظ من خلال تصاعد احتدام النقاش حول مصير العولمة في ظل التطورات الهائلة و العميقة، التي عرفها العالم خلال السنوات القليلة الماضية ، وجود مؤشرات كثيرة تدل على دخول العالم مرحلة جديدة تتعرض خلالها فكرة العولمة إلى ارتدادات و هزات، إن لم يكن الأمر يتعلق ببداية فعلية لنهاية هذه الظاهرة، التي مثلت الإطار المرسوم بدقة للأنشطة الاقتصادية و التجارية العالمية طيلة العقد الأخير، حيث تأكد أنها عاجزة فعلا عن الصمود في أزمنة الأزمات و الهزات، و ألا أحد كان يتصور أنها بكل هذه الهشاشة خلال اجتياز مراحل الصعوبات. و يمكن القول في هذا الصدد إن العولمة تعرضت خلال السنوات القليلة الماضية إلى أربع ضربات عنيفة جدا. بدأت أولاها بانسحاب المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي بما عرف ب (البريكست) في حينه، وفي انتخاب الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب على رأس أقوى دولة اقتصادية في العالم . و هكذا اعتبرت قضية (البريكست) عنوانا لمرحلة جديدة في اقتصاد السوق، الذي انتقل من نظام التكتلات الاقتصادية الى التعاون الاقتصادي الثنائي . في حين فإن انتخاب ترامب على رأس الإدارة الأمريكية أشر من خلال برنامجه الاقتصادي على إعادة الاعتبار لمفهوم الدولة القطرية. وتمثلت ثاني الضربات فيما فرضته جائحة كوفيد 19 من حقائق جديدة و ما خلفته من تداعيات. حيث ما أن وجدت البشرية نفسها في مرحلة حرجة جدا، بعد استفحال الجائحة و انطلاقها في الفتك بالأرواح البشرية، حتى تهاوى ما ادعته العولمة من قيم جديدة، من تضامن وتعاون وتكامل بين البشر فوق الكرة الأرضية، وأن العيش المشترك في عالم واحد كفيل بمواجهة الأزمات الصعبة كافة. حيث توارت العولمة إلى الخلف في مراتب جد متخلفة فاسحة المجال مرة أخرى أمام قدرات الدولة القطرية في مواجهة الأزمات المستفحلة، وانقطعت سبل التعاون الجماعي بشكلٍ نهائى، وفرضت تدابير الإغلاق والعزل و وقف سلاسل الانتاج والتسويق نفسها على جميع الدول، وبذلك تعرضت العولمة الى انتكاسة حقيقية ، أو لنقل إنها تجلت في حقيقتها التي كانت مبطنة في شعارات رنانة، كان الهدف منها التسويق والإغراء والتعتيم عن الأهداف الحقيقية .
أما الضربة الثالثة التي كشفت الوجه الحقيقي للعولمة، فتجسدت في اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية في عمق القارة العجوز .و بغض النظر عن الأساليب التي استعملت بخبث كبير فيما يتعلق بتوظيف الاقتصاد لخدمة أغراض عسكرية في مواجهة مباشرة بين القوى المتنفذة في العالم، من قبيل فرض العقوبات الاقتصادية وتوقيف سلاسل التسويق والتصدير، فإن الحقيقة الساطعة التي كشفتها هذه الحرب، أن العولمة الاقتصادية ليست بتلك القوة التي تمكنها من مواجهة أزمنة الأزمات الحادة، وأنها مجرد قنوات لصرف السياسات الاقتصادية بما يخدم مصالح معينة، وأنها تتهاوى وتندثر حينما يختلف الكبار وتتضارب مصالحهم وتتباين حساباتهم الجيو استراتيجية.
ورابع الضربات تجسد في تشكيل التقاطبات العالمية الجديدة التي عرفها العالم، مما أشر على مرحلة مخاض حقيقية يعيشها النظام العالمي التقليدي الذي لم يعد يمتلك قوته الاقتصادية و العسكرية المعهودة، و أن هناك تقاذفا سياسيا و اقتصاديا جديدا ناشئا يضم الخصوم التقليديين للقطب العالمي الأحادي المعلوم، ولكنه يضم أيضا حلفاء جدد من القارات الخمس جمع بينهم تمردهم على النظام العالمي الأحادي القطبية، ويؤكد المنحى التصاعدي المتسم بحدة الخلافات والتباينات بين هذه التقاطعات أن العالم بصدد حفر قبر عميق للعولمة .
ليس هذا فقط، بل لم تتردد أوساط اقتصادية عالمية وقارية في إطلاق العنان لتهم كثيرة للعولمة، ذلك أن صندوق النقد الدولي، الذي يعتبر أحد أهم المختبرات التي صنعت العولمة ، نفسه لم يتردد في القول في تقرير أصدره في نهاية الثلث الأول من السنة الجارية إنه ( يفترض أن العولمة تساعد على دعم النمو الاقتصادي من خلال قنوات متعددة، إلا أنه لا يوجد حتى الآن أي دليل قوي على أن هذه العلاقة العارضة تتحقق بقدر مهم) ، في حين لم تتوان جهات أخرى في التأكيد على أن العولمة مسؤولة بصفة رئيسية عن التغيرات المناخية المضرة التي اجتاحت الكون .
شظايا كثيرة تطايرت من اشتعال النيران حول العولمة، ذلك أن الاتجاه العام في النظام الاقتصادي العالمي يسير بسرعة كبيرة نحو اعتماد التعاون الثنائي والجهوي بين الدول في مختلف المجالات الاقتصادية، بسبب ضعف منسوب انعدام اليقين في النظام العالمي الاقتصادي السائد، كما أن كثيرا من الدول قررت فرض ضرائب جديدة على العديد من المواد المستوردة، و لم يقتصر الأمر على الحرب الدائرة في هذا الإطار بين الصين و الولايات المتحدة ، بل نلاحظ أيضا أن الاتحاد الاوروبي بدوره فرض جبايات جديدة على مواد مستوردة ، من قبيل الحديد والألمنيوم و الأسمدة و الأسمنت، ناهيك على أن منظمة التجارة العالمية نفسها لم تتردد في الاعتراف قبل أيام قليلة من اليوم، بأن حجم التبادل التجاري بين الدول سينتقل من 0,8 بالمائة سنة 2023 إلى 3,3 سنة 2024، بما يؤكد على إحجام دول العالم عن العولمة و اعتمادها على التبادل التجاري الثنائي أو في إطار التكتلات. يضاف إلى كل ذلك ملاحظة التراجع المتواصل للمؤشرات التقليدية للعولمة خصوصا ما يتعلق بتدفق رؤوس الأموال و التجارة والهجرة .
هكذا لم نعد في حاجة إلى بذل كثير جهد للتأكيد على أن العولمة تجتاز أكثر مراحل عمرها صعوبة و خطورة، إذا لم نجزم بالقول، إنها توجد في غرفة الإنعاش المركز قد تنتقل بعدها إلى فترة الموت السريري، إنها فعلا بداية نهاية العولمة كغلاف اقتصادي للكون .