الافـتتاحية
طرح خطاب العرش بتاريخ 18نوفمبر سنة 1955، الذي ألقاه جلالة الملك محمد الخامس ، رحمه الله و أكرم مثواه ، بعد ثلاثة أيام من عودته والأسرة الملكية ، إلى أرض الوطن ، مفهوماً حديثاً للجهاد الأكبر ، القصد منه الانصراف الكلي إلى بناء الدولة المغربية المستقلة العصرية، على قواعد الديمقراطية و الملكية الدستورية والحريات العامة والمساواة ، بما يعني أن المرحلة السابقة، وبكل ما حفلت به من تضحيات بذلها العرش والشعب، كانت جهاداً أصغرَ، انقلب إلى جهاد أكبر مع استرجاع الاستقلال الوطني وعودة ملك البلاد إلى العرش عزيزاً منتصراً ، حيث دخل المغرب مرحلة جديدة تتطلب تضافر الجهود وحشد الطاقات لبناء الركائز الراسخة للعهد الجديد، وهو ما عبر عنه الملك المجاهد بالجهاد الأكبر ، في تلك الفترة المفصلية الحرجة ، فكان التعبير الملكي دقيقاً وصائباً وعميقاً ، استوعبه الشعب، وتجاوبت معه النخب الوطنية، وجعلته شعاراً مقدساً لها .
وعلى هدي ذلك التعبير الملكي البليغ سياسياً أقوى ما تكون البلاغة السياسية ، سار جلالة الملك الحسن الثاني، طيب الله ثراه ، فخاض معارك استكمال تحرير التراب الوطني ، وتدشين الحياة النيابية ، وتحصين البلاد ضد المؤامرات والدسائس والأطماع الشريرة و النوايا الخبيثة، والتأسيس لدولة الحق والقانون ، وإعلاء صروح التنمية الشاملة والمستدامة ، وكانت معاركه تلك جهاداً أكبرَ ، لأنه يستهدف تطوير المغرب وتهيئته للانتقال إلى المرحلة التي تتحقق فيها الأهداف الوطنية في البناء و النماء والانتماء إلى العصر ، والحفاظ على سلامة الوحدة الترابية ، و الرفع من مكانة المغرب بين دول العالم ، في ظروف كانت عسيرة ، وفي وجه تحديات صعبة ، استطاعت بلادنا تجاوزها بأدنى الخسائر ، وبأقل التضحيات .
وتجدد مفهوم الجهاد الأكبر، الذي رفعه جلالة الملك محمد الخامس ، قدس الله روحه ، في هذا العهد الميمون، على يد جلالة الملك محمد السادس ، حفظه الله و أيده ، مجدد الدولة المغربية ، من النواحي كافة، بما في ذلك المفاهيم و المعاني والدلالات و الرموز والقيم ، وفي هذا التجديد يندرج مفهوم الجهاد الأكبر ، و يدخل المعنى العميق للأعياد الثلاثة التي أطلقت على الأيام السعيدة، 16/17/18 من شهر نوفمبر سنة 1955، وهي عيد العودة ، وعيد الانبعاث ، وعيد الاستقلال . وإذا كانت العودة المظفرة قد تحققت بفضل من الله ، ثم بالالتحام الشديد بين العرش والشعب، وبالتضحيات الجسام التي بذلها الملك بطل التحرير والمقاومة والاستقلال، فإن الانبعاث الذي رمز له بيوم 17 نوفمبر ، إنما هو انبعاث أمة يقودها ملك مجاهد ، وهو غير محدد بزمن معلوم، لأن الانبعاث حركة مطردة لا تتوقف عند مرحلة محددة . فقد حصل انبعاث الأمة المغربية في 17 نوفمبر قبل تسع و ستين سنة ، و تكرر هذا الانبعاث في عهد جلالة الملك الحسن الثاني، رحمه الله ، وهاهو اليوم يتجدد انبعاث الأمة في عهد جلالة الملك محمد السادس، نصره الله ، ليكون الانبعاث الثالث في تاريخ وجيز لا يتعدى سبعة عقود.
وكما يتجدد انبعاث الأمة ، يتطور استقلال الوطن، لأن تعزيز الوحدة الترابية هو تعزيز للاستقلال، وتحصين البلاد ضد المؤامرات والاستفزازات وحماية السلامة الإقليمية للمغرب، هما تطوير للاستقلال الوطني، ومواصلة تحقيق النهضة الحضارية الشاملة اقتصادياً واجتماعياً، هو طور جديد من تطوير الاستقلال، أو هو بعبارة أدق، تعميق مضمون الاستقلال ، وتأصيل مفهومه، وتقعيد أسسه. وهكذا ذواليك يتراكم الاستقلال ويتعمق و يتعزز. وهو الأمر نفسه مع الانبعاث مفهوماً ودلالةً ومضمونا.
وتلك هي السلسلة الذهبية لاستمرار التجديد في أساليب الحكم، والتطوير للأنظمة القانونية وللمنظومة المفاهيمية، والتطوير الممنهج للشعارات الوطنية التي رفعت في فترة مفصلية ولحظة تاريخية، حين عاد الملك المقاوم والمجاهد محمد الخامس من المنفى إلى أرض الوطن ، لتبدأ حركة الانبعاث، وتتطور مرحلة بعد مرحلة، ولتتعمق معاني الاستقلال وتتأصل وتزداد رسوخاً و ثباتاً ومتانةً.
من خلال هذا المنظور، نفهم دلالات الجهاد الأكبر، ومعاني العودة إلى العرش بعد حقبة سوداء امتدت قرابة الثلاث سنوات، ومفاهيم انبعاث الأمة واستقلال الوطن .وهي الدلالات والمعاني والمفاهيم التي تتبلور اليوم في الرؤى الحكيمة والمستنيرة لجلالة الملك محمد السادس، رعاه الله ووفقه، باني المغرب الحديث ومجدد الدولة المغربية.
العلم