2023 نونبر 26 - تم تعديله في [التاريخ]

هكـذا تـسرق الثـروة فـي العالـم


العلم - بقلم عبد الله البقالي

موازاة مع تزايد انعدام المساواة بين الشعوب والأفراد في الاستفادة من الثروة العالمية، التي تتباعد فيها المساحات بين أقلية قليلة تستحوذ على الجزء الأكبر من كعكة الثراء العالمي، وأغلبية ساحقة من شعوب العالم تواجه تحديات كبيرة وضخمة من أجل الحصول على الحد الأدنى من نصيبها، وبعض من سكان العالم تقتصر استفادتهم على بعض الفتات الذي لا يكفي لضمان الحد الأدنى من العيش الكريم. موازاة مع استمرار هذا التباعد، ترتفع أصوات كثيرة من مختلف مناطق العالم تنبه إلى الخطورة البالغة التي يكتسبها انعدام العدل والمساواة بين البشر في الاستفادة مما تتيحه الحياة البشرية والطبيعة من ثراء عالمي، وتلح في المطالبة بإيجاد صيغ وحلول تضمن الولوج إلى الحق في هذه الاستفادة.

الدراسة الحديثة التي نشرها إلى العموم المرصد الأوروبي للضرائب، قبل أيام قليلة من اليوم، تكشف عن مناطق ظل مثيرة ومتشعبة في صدد هذه القضية الهامة، حينما سلط الأضواء الكاشفة على أحد أهم المسالك التي من شأنها تخفيض نسب التفاوتات في الاستفادة من الثروة العالمية، بين الأثرياء الكبار والفقراء الصغار، ويتعلق الأمر بالتحديد، بوضع حد للتهرب الضريبي من طرف الأثرياء الذين يتفننون في إبداع أشكال هذا التهرب.

فقد كشفت الدراسة التي أعدها مائة باحث ينتمون إلى مختلف دول العالم، واحتضنتها كلية باريس للاقتصاد، أن الشركات متعددة الجنسيات تقوم بتحويل عائداتها المالية إلى  الجنات الضريبية، حارمة الدول من مداخيل جبائية مهمة من شأنها المساهمة  في تسريع وتيرة التنمية في العالم. وأكدت الدراسة أن المبلغ الإجمالي المنفلت من التضريب وصل في سنة 2022 إلى ألف مليار دولار (تريليون دولار)، و هو مبلغ مهول يعادل القيمة الإجمالية للناتج الداخلي الخام لدولتين من حجم الدانمارك و بلجيكا مجتمعتين.

وقال معدو الدراسة إن هناك ما اعتبروه جيدا، وسيئا، وسيئا جدا في رصدهم لهذه القضية. وهكذا بالنسبة إلى ما خلصت الدراسة إلى اعتباره جيدا، يكمن في تراجع التهرب الضريبي بالنسبة للأشخاص الأثرياء والإيداعات البنكية والأسهم وأشكال مالية أخرى تم توطينها في الخارج، وهي غير مصرح بها، وتحقق هذا التراجع بفضل نظام التبادل الأوتوماتيكي للمعلومات البنكية الذي تم الاتفاق عليه سنة 2017 وأقرته العديد من الدول.

وبالنسبة للتفاصيل المتعلقة بهذا الجانب تشير الدراسة إلى أن حجم الثروة العالمية الذي تم تهريبه إلى الخارج سنة 2022، قدر ب 12 ألف مليار دولار (12 تريليون دولار) وهو ما يعادل 12 بالمائة من الناتج الداخلي الخام العالمي، وأن ربع هذا المبلغ المهول غير مصرح به حاليا، بينما كانت نسبة الأموال المنفلتة من التضريب بسبب تهريبها إلى الخارج تصل إلى 90 بالمائة من مجموع الثروة العالمية سنة 2007. وهذا التراجع الكبير في حجم الأموال التي تم تسفيرها إلى أماكن لحمايتها من التضريب تعتبره الدراسة تطورا إيجابيًا جدا. بينما تنبه الدراسة إلى ما اعتبرته سيئا، حيث أشارت إلى  أن أرباح الشركات الكبرى ارتفعت في سنة 2022 إلى ما  قيمته 16 ألف مليار دولار (16 تريليون دولار )، من ضمنها 2800 مليار دولار محصلة كأرباح خارج الدول التي توجد بها المقرات الاجتماعية لهذه الشركات، وأن 1000 مليار دولار تم تهريبها نحو الجنات الضريبية، بما يعني أن 35 بالمائة من الأرباح التي تحققها الشركات خارج الدول التي توجد بها، منفلتة من التضريب، وتكشف الدراسة على أن الشركات الأمريكية في مقدمة هذه الشركات التي تلتجئ إلى توطين الأموال في الخارج للتهرب من الضرائب، و هي تستحوذ على نصف المبلغ المهرب.

أما الجزء الذي اعتبرته الدراسة سيء جدا فيما رصدته، تمثل في الإقرار بأن أثرياء العالم بصفة عامة لا يسددون الضرائب على ممتلكاتهم، و أن 0,5 بالمائة منهم هم الذين يسددون ما بذمتهم في هذا الصدد، وبذلك فإن أثرياء العالم أقل تضريبا من الطبقة الوسطى، ويرى معدو الدراسة أن فرض نسبة بسيطة من الضريبة على ثروات  2756  من أثرياء العالم والذين تصل قيمة ثرواتهم إلى 13 ألف مليار دولار (13 تريليون دولار ) لا تتجاوز 2 بالمائة من شأنه تحصيل 250 مليار دولار سنويا بما يعادل الموازنات السنوية لمجموعة من الدول النامية مجتمعة .

وبعيدا عن لغة الأرقام والإحصائيات، فإن الدراسة تنبه إلى ما هو أكثر خطورة فيما يتعلق بسوء التصرف في الثروة العالمية، وفي تنصل الأثرياء والشركات الكبرى من تسديد الضرائب. ذلك  أن فقدان الثقة في إمكانيات حكومات الدول في تحقيق عدالة جبائية، بحيث يكون الجميع من أشخاص وشركات سواسية أمام القانون و في الامتثال لتسديد الضرائب، وليس كما هو عليه الحال حاليا إذ يدفع البسطاء، خصوصا من الطبقة المتوسطة، ما يستحق عليهم من ضرائب، بينما ينجح الكبار في التنصل من هذا الواجب، و تزيد بذلك ثرواتهم على حساب الطبقات المعوزة. اختلال من هذا القبيل يشعر الناس بالظلم وبالتالي لن يكونوا راضين عن تسديد الضرائب، و تفقد الثقة في المؤسسات التي تصبح في هذه الحالة، ليست عاجزة  عن القيام بواجباتها و بمسؤولياتها فقط، بل أيضا تصبح متحيزة لجهة معينة و متواطئة مع المتنصلين من تنفيذ القانون. كما أنه من شأنه أن يساهم في ضعف وتآكل العقد الاجتماعي داخل المجتمعات، بسبب أن مجموعة نافذة داخل المجتمع الواحد تصر على تنصلها من مسؤوليتها الوطنية والاجتماعية. وفوق كل ذلك، فإن هذا الاختلال البنيوي يهدد مصير الديموقراطية في العالم، لأن تنصل النافذين من تسديد واجباتهم تجاه المجتمع، وعجز الدولة على جعل الأشخاص يمتثلون للقانون و تغول هذه الفئة القليلة في المجتمع بفقد الديموقراطية محتواها السياسي والأخلاقي ، و يفرغ المؤسسات التي تفرزها صناديق الاقتراع من محتواها. وبذلك فإن الديموقراطية تفقد مضمونها الحقيقي، لأنها تعجز عن تحقيق العدل والمساواة بين الأفراد والجماعات، وهو الهدف الذي وحدت الديموقراطية من أجله

هكذا يتضح أن سوء توزيع الثروة العالمية وتعميم الاستفادة منها بين البشر حيث ما كانوا ووجدوا بغض النظر عن ألوانهم وعقائدهم وعرقهم، ليس قدرا محتوما، بل هو نتيجة طبيعية جدا لنظام عالمي مختل وظالم، ولسياسات خارجية دولية معتلة يتحكم في تفاصيلها الكبار النافذون



في نفس الركن