العلم الإلكترونية
هذه كواليس الاتفاق التركي المصري حول ليبيا
صرح الرئيس التركي، أنه "لن يترك أشقاءه الليبيين يواجهون وحدهم العدوان العسكر، وأكد أنه سيواصل التصدي للحكومات الداعمة لحفتر". لكن خلال شهرين تحول المشهد ليصبح "وقف إطلاق للنار أعلنته حكومة الوفاق وكذلك رئيس البرلمان الليبي المنعقد في طبرق. "هناك نية لدى الأطراف الليبية لوقف إطلاق النار، تكون المنطقة الوسطى أي مدينة سرت والجفرة منطقة منزوعة السلاح وهذا ما تحقق اليوم".
وبدلا من قرع طبول الحرب الذي ظلت تقرع لأسابيع، عزفت نغمات التفاوض بين مصر وتركيا وانتهت الأمور باتفاق أممي لوقف إطلاق النار، فما هو السر وكيف تم ذلك؟ وما علاقة الصراع المشتعل حول ثروات الشرق المتوسط بالأمر؟
عشية انقلاب الثالث من يونيو 2013، شهد العالم توترا غير مسبوق في العلاقات بين القاهرة وأنقرة حيث تحولت تركيا على إثرها إلى ملاذ آمين لكثير من المعارضين الفارين من اضطهاد نظام الرئيس السيسي، لكن كل هذا كان مجرد بداية، وربما قطرة في طوفان الخصومة. في تصريح أدلى به الرئيس التركي آنذاك قال: "وصلتني رسالة من مصر أمس، يقولون إنهم منزعجون من تصريحاتي ويقولون أيضا إنه من الممكن أن يتحدثوا معي عبر الهاتف إذا اضطر الأمر. هل يجب أن نضحك لهذا الأمر أم نبكي، فكيف نتحدث معك (مخاطبا السيسي) وأنت لست منتخبا، بل عينت من قبل حكومة انقلابية."
وردا على تصريحات تركيا في أحد الحوارات الصحفية أشار السيسي إلى أن السبب وراء انقطاع العلاقة بين البلدين راجع إلى سلوك تركيا.
في نونبر 2014 أعلنت كل من مصر واليونان وقبرص عن تشكيل تحالف أمني واقتصادي وسياسي في منطقة شرق المتوسط، تحالف رأى كثيرون أن تركيا هي المستهدفة فيه.
وفي هذا السياق قال الرئيس القبرصي، نيكوس إناستاسيادس، إنهم اتفقوا جميعا على إدانة الإجراءات التركية غير القانونية في المنطقة الاقتصادية القبرصية. وقد حذرت تركيا مرارا مما سمته "مساعي حبسها في نطاق سواحلها والاعتداء على جرفها القاري، واعترضت على إقصائها من قبل مصر واليونان. وطبعا الخصومة القديمة بين تركيا واليونان معرفة للجميع ليست بحاجة للمزيد من التوضيح.
بدأت أنقرة في تسيير سفنها للتنقيب عن الغاز منذ عام 2018 في مياهها الإقليمية وبعض المناطق المتنازع عليها، وبينما بدا للعالم أن موجة الخصومة ترتفع بين البلدين في كل الملفات، كانت العلاقة تسير في مسارين متوازيين، أمواج متلاطمة وسط عاصفة سياسية كادت أن تصل حد القطيعة وإبحار هادئ في نهر التجارة العذب التي تزداد وتزدهر سنويا بل وحققت رقما قياسيا وتاريخيا في 2018، إذ بلغ حجم التبادل التجاري بين مصر وتركيا نحو 5 مليارات دولار بزيادة نسبتها 20 في المائة عن العام الذي سبقه، وعندما تصل الأمور إلى الميزان التجاري تكون البراغماتية هي سيدة الموقف.
في فبراير 2018، أبرمت مصر عقدا لاستيراد الغاز من إسرائيل لمدة 10 سنوات، كما بدأت مصر من جانبها إنتاج الغاز من حقل ظهر عام 2017 وكذلك وقعت مصر في شتنبر 2018 اتفاقية مد خط أنابيب مع قبرص لإقامة خط بحري، الخط سينقل الغاز الطبيعي من حقل "أفروديت" القبرصي إلى محطات الإسالة في مصر لتصديره إلى الأسواق الأوروبية. "لقد حققنا الهدف الذي كنت أحلم به منذ أربع سنوات، لقد أصبحنا مركز إقليمي للطاقة في المنطقة"، يتكلم السيسي.
وفي يناير 2019، استضافت مصر اجتماعا دوليا بالقاهرة أعلن فيه عن تحويل تحالف شرق المتوسط إلى منظمة إقليمية مقرها العاصمة المصرية تحت اسم "منتدى غاز شرق المتوسط" بمشاركة كل من مصر والأردن وإسرائيل وقبرص واليونان وإيطاليا والسلطة الفلسطينية، لم تكن بينها تركيا ولا ليبيا، المنتدى في حقيقته جاء تعزيرا لمحور مصر وقبرص واليونان وإسرائيل.
حملة حفتر على طرابلس
أطلق خليفة حفتر اللواء الليبي المتقاعد، حملته على طرابلس مستعينا بعتاد حلفائه في مصر والإمارات وفي كلمة له أعلن عما سماه "المعركة الحاسمة والتقدم نحو قلب العاصمة مرددا أنه دقت ساعة الصفر، ساعة الاقتحام الواسع الكاسح التي ينتظرها كل ليبي حر شريف" في حين خرج "فايز السراج"، رئيس حكومة الوفاق الوطني، ليرد على ساعات حفتر الصفرية بقوله "لا ساعة صفر سوى صفر الأوهام ولا سيطرة ولا اقتحام لطرابلس وأحيائها." حوصرت طرابلس وبدت لحظة السقوط آتية لامحالة، حتى جاءت النجدة من الضفة الأخرى للمتوسط.
في نونبر 2019، تفاجئ تركيا دول شرق المتوسط بإعلان أردوغان عن دخوله مسرح الصراع الليبي وتعهده بإرسال قواته لدعم حكومة الوفاق بموجب اتفاق بين الطرفين، الاتفاق اشتمل على شقين، أولهما التعاون العسكري الأمني وثانيهما، ترسيم الحدود بين البلدين، والذي يعطي تركيا امتيازات ترى أنها من حقها، وللمفارقة، فإن الاتفاق ذاته يعطي مصر منطقة امتيازات بحرية أوسع من مسار مفاوضاتها مع اليونان.
وأكد مصدر خاص، أكد أن مذكرة رفعت آنذاك من وزارة الخارجية المصرية إلى السيسي طالبته بقبول الاتفاق الليبي كونه يصب في المصلحة المصرية، المعلومة نفسها تقاطعت مع تحقيق لـ"مدى مصر"، حيث أكد مسؤول مصري لها أن وزارة الخارجية وكذلك نظم المعلومات الجغرافية "حاولا الضغط على الرئاسة المصرية من أجل القبول ـ الهادئ ـ بالاتفاق لأنه يمنح مصر امتيازا بحريا كبيرا"، بينما كانت مفاوضات ترسيم الحدود البحرية بين مصر واليونان متعثرة بسبب أن الرؤية اليونانية تلتهم مساحة ضخمة من المناطق الاقتصادية الخالصة بمصر، مقابل الرؤية التركية التي تعطي لمصر الحق في زيادة ضخمة في المنطقة الاقتصادية الخالصة تصل إلى حجم مساحة صربيا "بحسب مسؤول تركي".
وقوبل الاتفاق التركي الليبي برفض مصري ـ يوناني مشترك، في الشهر نفسه الذي وقعت فيه تركيا اتفاقها مع ليبيا، أعلنت شركة "ديليك" الإسرائيلية للحفر عن تملكها لخط الغاز بين مصر وإسرائيل. تحرك إسرائيلي، سيتضح لاحقا أنه خطوة متقدمة لمنافسة مصر على هدفها المتمثل في أن تكون مركزا إقليميا لتصدير الطاقة.
قوات تركية في ليبيا
في يناير 2020، وافق البرلمان التركي على إرسال قوات إلى ليبيا، وفي الشهر نفسه، كان السيسي يتلقى طعنة في الظهر من حلفاء شرق المتوسط، فبعد يوم واحد فقط من موافقة الأتراك على التدخل في ليبيا، وقعت قبرص واليونان وإسرائيل على اتفاق لمد خط أنابيب بشرق المتوسط والمعروف بـ"إيست ميد" في تجاهل تام لمصر، الخط الذي سيمتد على طول 2000 كلم من سواحل إسرائيل مرورا بقبرص ثم إلى أوروبا، سيوفر 10 في المائة من حاجات السوق الأوروبية من الغاز بدعم أمريكي لتخفيف اعتماد أوربا على روسيا في إمدادات الطاقة.
وأنذر الاتفاق الثلاثي بتهميش مصر، فبعد توقيع الاتفاقية بأيام، قال وزير البترول المصري في حوار صحافي مقللا من أهمية المشروع ومشككا في إمكانية تنفيذه بالأساس "أعتقد أن هناك عددا من التحديات في إنشاء هذا الخط، حيث إن أغلبه سيمر في المياه التي عليها مناقشات، ومياه بها مشكلات حدودية في المياه الإقليمية الاقتصادية للدول، وبالتالي، ليس من المؤكد أن يمر هذا الخط ببساطة.
وكان تنفيذ "إيست ميد" يحتاج إلى رضى تركي لأن مسار خط الغاز يعبر مناطق يسيطر عليها الأتراك حتى أن الإسرائيليين وجهوا دعوة إلى تركيا للمشاركة في الاتفاقية لكنها رفضت، كونها تعمل على إنشاء خط "الأناضول" لنقل الغاز الذي يطمح للهدف ذاته، نصل إذا إلى نقطة التقاء المصالح التركية المصرية التي تعود لتبرز معها أهمية الاتفاق التركي الليبي بالنسبة إلى مصر. وبدا أن كل طرق القاهرة المؤدية إلى أن تصبح مركزا إقليميا للطاقة تمر بالضرورة من أنقرة.
الرمال الليبية الملتهبة
على الأرض، كانت مجريات الأحداث في تصاعد مضطرد وبالاتجاه المعاكس، أصبحت قوات الوفاق على حدود مدينة سرت وسط البلاد، تراجعت قوات حفتر شرقا إثر سلسلة انتصارات لحكومة الوفاق بدعم من أنقرة، وعادت تركيا إلى طاولة المفاوضات في شرق المتوسط بأوراق رابحة وهنا جاء الرئيس المصري ليعلن "مبادرة لحل الأزمة الليبية" مصرحا: " نحذر من إصرار أي طرف على الاستمرار في البحث عن حل عسكري للأزمة الليبية وإلزام كافة الجهات الأجنبية بإخراج المرتزقة الأجانب من كافة الأراضي الليبية وتفكيك الميلشيات وتسليم أسلحتها".
كرونولوجيا
وفي 20 يوليوز 2020، وافق البرلمان المصري على إرسال الجيش المصري ل"مهام خارج البلاد"، التوتر وصل مداه، وبدا واضحا أن الحرب قادمة لامحالة، لكن في ظل وضع اقتصادي غير مشجع، وكذلك بسبب الآثار الاقتصادية لجائحة كورونا، وبعدما تلقت مصر الطعنة من حليفتها إسرائيل في ملف ثروات شرق المتوسط، لم يكن أحد يريد المخاطرة بإشعال آتون الحرب، وفي هذا الوقت كانت مصر تستعد لتسوية ملف ترسيم حدودها البحرية مع اليونان.
في السادس من غشت 2020، وقع وزير الخارجية المصري ونظيره اليوناني اتفاقية ترسيم الحدود البحرية بين البلدين، وكذلك المناطق الاقتصادية، مصر كانت على وعي بالتوتر التاريخي بين تركيا واليونان فيما يتعلق بمناطق الامتياز الاقتصادي الواقعة في الجرف القاري لتركيا، وبدلا من أن يتم تقاسم هذه المنطقة بين مصر واليونان، أطلعنا مصدر خاص على أن مصر قررت استبعاد بعض هذا المناطق من المفاوضات والتنازل عن بعضها الآخر لليونان.
أعضاء فريق التفاوض المصري شعروا أنها تنازلات كبيرة للغاية لكن الخطوة المصرية كان غرضها الفعلي إرسال بادرة حسن نية إلى تركيا، وما بدا أن التنازل المصري كان في الحقيقة "إشارة سياسية أملت القاهرة أن تلتقطها أنقرة "، وهو الأمر الذي حدث بالفعل.
في 18 غشت 2020، وافق البرلمان المصري على الترسيم الجزئي للحدود البحرية مع اليونان، تركت مناطق أخرى إلى مفاوضات لاحقة، وبناء على الخريطة التي حصلت عليها "رويترز" للاتفاق، فإن الاتفاقية البحرية اليونانية المصرية تنطبق فقط على جزيرتي كريت و"رودس" تاركة مسألة تحديد الحدود مع جزيرة كاستيلوريزو لمرحلة لاحقة، ما يعني عدم المساس بالجرف القاري التركي من قبل مصر، وكانت النتيجة فتح قنوات محادثات سرية بين مصر وتركيا للمرة الأولى.
بحسب مصادرنا، في غشت 2020، تواصل الملحق العسكري بالسفارة التركية بالجزائر مع نظيره المصري لفتح محادثات بخصوص الملف الليبي المشتعل، كان الرد المصري الرفض الشديد والذي وصل وفقا لمصدرنا إلى درجة عالية من الفظاظة، الرفض في البداية كان سببه ظن المصريين أنها مبادرة شخصية من مسؤول متواضع المستوى إلا أن الأخير عاد وأكد أن الأمر يأتي بتوجيه رفيع المستوى في تركيا وتم دعوتهم لفتح قنات للتواصل، في حين رد الملحق المصري أن هناك الكثير من الملفات الإشكالية التي تجعل من التواصل أمرا حرجا، ليرد الملحق العسكري التركي: "لنبدأ بالملفات الأقل إشكالا والتي قد لا يصعب إيجاد أرضية مشتركة فيها تؤسس لبناء الثقة، بعدها نتحدث عمن الملفات الأكثر تعقيدا".
وأشار مصدرنا الخاص، أن الملحق العسكري المصري عندها رفع الملف إلى الاستخبارات العسكرية والتي أرسلت بدورها ضابطا رفيع المستوى إلى الجزائر للاجتماع مع الطرف التركي، أبدى المصريون استعدادهم للحوار وكان القرار ببحث الملفات على مستوى استخباراتي أعلى ونقلها إلى العاصمة الإيطالية روما، توافق الطرفان على الخطوط العامة للتهدئة في ليبيا، ودشنا بذلك طريقا طرقا سالكا بين أنقرة والقاهرة، بعدها وصل مسؤول استخباراتي تركي بشكل سري إلى القاهرة، وترجح مصادرنا أنه لم يكن سوى رئيس المخابرات التركية "هاكان فيدان".
جرى في الزيارة الاتفاق بالكامل على أهم القضايا المتعلقة بليبيا كخطوة أولى، هذا اللقاء السري أكدته تصريحات واضحة للرئيس التركي نفسه " في الواقع لا أفهم موقف مصر في هذا الموضوع لأن الاستخبارات المصرية والتركية تقولان أشياء أخرى، يقولان مجرد سوء تفاهم فقط الذي لابد من إصلاحه، وفي الوقت الحالي تتواصل المخابرات التركية مع نظيرتها المصرية وسنجعل ذلك يستمر" يشرح أردوغان.
وفوق ذلك، في 17 شتنبر 2020، خرج وزير الخارجية التركي "مولود جاويش أوغلو" بتصريح أكثر وضوحا في برنامج "منطقة محايدة" على قناة "سي أن أن ترك" بكلمات تؤكد أن الاتفاق التركي المصري في ليبيا انطلق بسبب بادرة القاهرة وإشارتها خلال ترسيم حدودها البحرية مع اليونان "عرضنا على مصر أن تعقد معنا اتفاقية مثلما فعلنا مع ليبيا، مصر لم تنتهك في أي وقت الجرف القاري لتركيا وتوقيع مصر اتفاقية مع اليونان لا توضح أنها تعدت على حق تركيا أبدا حيث أنها تعاملت مع حقوقنا باحترام رغم أننا لا نتمتع بعلاقات سياسية جيدة معها".
بالنتيجة، اتفقت الأطراف على وقف إطلاق النار في غشت 2020، وفي 28 شتنبر 2020 انطلق اجتماع أمني ليبي في مدينة الغردقة المصرية بين قيادات عسكرية وأمنية من الشرق الليبي الذي تدعمه القاهرة وكذلك قيادات من حكومة الوفاق الوطني التي تدعمها تركيا. اتفق طرفا الصراع الليبي خلال اجتماعاتهم على تشكيل هيئة عسكرية مشتركة تضم جميع الليبيين لتخمد نيران المعركة تماما، وبدا أن تقاربا بين مصر وتركيا أعاد الهدوء إلى الساحة الليبية، تأكد الأمر أكثر في نونبر 2020، بعد اتفاق أممي لوقف إطلاق النار باركته أطراف دولية.
في 27 من دجنبر2020، وصل وفد رسمي مصري برئاسة نائب رئيس المخابرات إلى العاصمة الليبية طرابلس في زيارة هي الأولى لمسؤولين مصريين منذ عام 2014، تركزت محادثات الوفد المصري مع مسؤولين في حكومة الوفاق الوطني على تفعيل الاتفاقيات الاقتصادية المشتركة واستئناف الرحلات الجوية بين العاصمتين وكذا على إعادة فتح السفارة المصرية في طرابلس في خطوة هي الأولى من نوعها منذ انحياز القاهرة كليا إلى جانب اللواء المتقاعد خليفة حفتر.
كل هذا تحت عين الأتراك في الغرب الليبي، كما فتحت أنقرة قنوات اتصال في شرق ليبيا بعيدا عن حفتر، واستقبلت مبعوثا من رئيس مجلس نواب طبرق "عقيلة صالح"، عاد الجميع إلى طاولة الحوار من جديد، والأهم إلى طاولة السياسة، لكن يظل السؤال، هل تشكل هذه الاتفاقيات الأرضية المناسبة لعودة العلاقات التركية المصرية إلى مجاريها الطبيعية؟ وكيف سيؤثر ذلك على حلفاء مصر الإقليميين الإمارات والسعودية، في ظل إشارات إيجابية يرسلها البلدان نحو تركيا؟