لقد ظللنا سنوات و نحن نتعايش مع الهشاشة و مع ما تعانيه الفئات الفقيرة، دون أن نشعر بما نشعر به حاليا، من ضغط كبير سببه الوضع الدقيق لألاف الأسر التي تئن من جراء الغلاء و أثره على المستوى المعيشي، و تردي الوضع المادي بفعل استفحال بطالة الشباب في المجال الحضري، و ضعف الأجور في القطاع الخاص، و تراجع النشاط الفلاحي الذي أدى إلى فقدان فرص عمل للشباب في العالم القروي بفعل الجفاف ونذرة المياه.
حاليا، أصبحت تجليات الفقر الذي تعاني منه فئات واسعة، تظهر بوضوح أكبر، تماما كما يظهر ازدياد الهوة بين الفئات الغنية و الفئات الفقيرة والمتوسطة، في غياب استراتيجية واضحة لتوزيع عائدات التنمية على الجميع، عبر نظام ضريبي عادل و منصف لكل الفئات، خاصة فئة الموظفين و المستخدمين، و فئة المقاولات الصغرى التي تعتبر بابا من أبواب التشغيل الذاتي للشباب.
و لاشك أن كثيرا من الناس يتذكرون كيف كانت الأسر الفقيرة، في سنوات مضت، لا تستطيع اقتناء عدد من المواد المكلفة، لكنها كانت تصمد و هي مطمئنة إلى ضمان الحد الأدنى من المواد الغذائية لأكل أبنائها. حيث كنا نقول: "اللي ما لقى باش يشري اللحم، يمكن يشري الخضرة ... و يدير طاجين، و ها عشاء ليلة، و بنادم شبعان ...!!!!". لكن، للأسف، الارتفاع الحالي في الأسعار جعل كلفة الطاجين تصل إلى 50 درهما، دون لحم و لا دجاج. فهل يمكن للعمال الموسميين، و للأسر التي تضم ستة أفراد، من صغار المستخدمين والموظفين، أن يخصصوا للأكل، ميزانية يومية تتجاوز 100 درهم ؟ الأمر مستحيل بالنسبة للكثيرين ...!!!
هذا الصباح، دار أمامي حوار بين صاحب "حانوت" وسيدة أتت تشتري بعض المواد، جاء كالتالي :
"- بشحال هاديك (أشارت إلى مادة تريد شراءها..!) ؟
- ب 60 درهم ...
- ناري .. ناري ... زادوا فيها حتى هي ؟!
- إيوا هذا ماكان ... و لكن علاش غادة تشريها إذا جاتك غالية ؟
- إيوا على قبل وليدي مسكين ...
- علاه ما يقدرش يأكل الطاجين بلا هادي ؟
- إيوا ... شنو غادي ندير ... راني ولفتو يأكلها... و ما نقدر نحرم وليدي من الماكلة ... كيف ندير ؟...!"
بتلك الجملة التي تختزل رغبة تلك السيدة في إسعاد ابنها، و المحافظة له على الحد الأدنى من الأكل المعتاد، انتهى الحوار و انصرفت الأم الغيورة. ثم غادرت أنا في أعقابها و أنا أتسائل :
هل كل هذه الزيادات التي نراها مبررة فعلا ...؟؟
كيف يعقل أن ترتفع أثمان بعض السلع بأكثر من 50% بدون سابق إنذار ...؟؟
هل علينا أن نصدق إلى الأبد أن للأمر علاقة بالحرب في أوكرانيا ؟؟
أليست الحقيقة هي أن العالم يعيش حرب الشركات الرأسمالية على الشعوب، من أجل تحقيق مزيد من تراكم الأرباح لدى أصحابها؟؟
ماذا ننتظر لاتخاذ خطوات صارمة ضد المضاربين، و ضد الشركات المحتكرة لإنتاج أو تسويق بعض المواد ...؟؟
ما الذي يبرر عدم استهداف السماسرة و الوسطاء الذين يتسببون في تضخم أسعار المواد الغذائية، ويفرضون على الناس ضغط ارتفاعات غير مبررة ...؟؟
لماذا لا يتم تقنين تصدير المواد الفلاحية لضمان توفر كميات كافية داخل السوق الوطني لكي لا ترتفع الأسعار ؟؟
لاشك أن السلطات الحكومية لديها الإجابات الضرورية على هذه الأسئلة، و هي من عليها مسؤولية تخفيف الضغط الاجتماعي على المواطنين الذين لم يعودوا في حاجة إلى "شروحات اقتصادية تربط لهم أسباب التضخم بعوامل جيوسياسية و جيوستراتيجية قادمة من الخارج"، بقدر ما يحتاجون إلى من يعاملهم بالمنطق الذي تحمله الأم التي أشرت إليها أعلاه. منطق يجسد المسؤولية الأخلاقية برفض الحرمان، تحت أي ظرف من الظروف، و بالتالي عدم التطبيع مع معاناة الفئات الهشة التي كانت تحمد الله على طاجين الخضر، و أصبحت الآن لا تستطيع بلوغه بفعل الغلاء السافر.
المغاربة يحبون وطنهم و يحبون ملكهم، و يحترمون مؤسسة الحكومة باعتبارها إفراز طبيعي لممارسة ديمقراطية وانتخابات شاركوا فيها، ويحرص عليها الجميع. لكن المغاربة يؤمنون، أيضا، أن المغرب كبير على العابثين لذلك على الحكومة الوقوف في وجه المستهترين الذين ينتصرون لمصالحهم و لأرباحهم الخاصة على حساب عموم الناس، و حمايته ضد المتخاذلين عن تأدية مسؤولياتهم تجاه الوطن والمواطنين.
لذلك، يستحق المغاربة من الحكومة أن تضاعف جهودها لتنفيس الوضع الاجتماعي الضاغط، و استثمار هوامش التحرك المتوفرة لديها لوقف ارتفاع أسعار المواد الغذائية والخضروات، عبر تقنين التصدير و فرض رسوم عاجلة لهذا الغرض، قبل أن يصبح للأمر تداعيات أكبر مما كان لارتفاع أسعار المواد الطاقية، الذي صبر الناس عليه لأكثر من سنة، و هم يقنعون أنفسهم بتبريرات "العوامل الخارجية التي تتسبب في ارتفاع أثمان المحروقات".
في مواجهة جائحة الغلاء، يتطلع المجتمع المغربي، و خاصة الفئات الهشة و المتوسطة، إلى تدابير قوية ضد العابثين بقفة المواطنين لكي تعود الطمأنينة ونركز على التحديات الكبرى التي تستدعي اليقظة، و توجب التعاطي مع الملفات الاجتماعية الحارقة، و تعزيز الثقة عبر مواجهة قضايا الفساد التي يتحدث عنها الإعلام، بين حين و آخر، بكل صرامة حتى ينتصر القانون على الأهواء و يتم ربط المسؤولية بالمحاسبة.
ومن كانت لديه حاجة لمعرفة كيف يجب أن تدار الأمور في ظرف دقيق كالذي نعيشه، يمكنه الاسترشاد بالنموذج الذي مثلته الملحمة الوطنية لمواجهة جائحة كورونا، التي تمت بتوجيه من جلالة الملك حفظه الله، و رأينا فيها الإجراءات الحازمة والخطوات الاستباقية والمبادرات التضامنية التي أدخلت الفرحة للقلوب و جعلت الفئات الهشة في مأمن من الحاجة، وحفظت للمواطنين كرامتهم و احترامهم لذواتهم. و بالتأكيد، إذا توفرت الإرادة السياسية والرغبة في التفاعل مع الأصوات المنبعثة من المجتمع، يمكننا أن نعود إلى ما كنا عليه في فترة جائحة كورونا من روح وطنية تعتبر المغاربة، أغنياءهم و فقراءهم، سواسية في الحقوق و هم جميعا ركاب سفينة واحدة هي الوطن الذي يجب حمايته من الأمواج العاتية، و مما يحيكه المتربصون والأعداء، و اتخاذ المتعين من قرارات كي لا تتراكم مشاكل جديدة تنضاف إلى أخرى قائمة، و تتعقد الأمور على بعد أسابيع من شهر رمضان المبارك.
#أنيروا_الطريق
#المغرب_كبير_على_العابثين
#سالات_الهضرة
يونس التايب