2024 دجنبر 5 - تم تعديله في [التاريخ]

بنية التَّقْويض في ديوان "حلم أعلى الوسادة" للشاعر محمد بشكار


العلم - محمد علوط

لعل أبرز ميسم مميز للتجربة الإبداعية للشاعر محمد بشكار هو كونها أولا تجربة متشابكة الأبعاد تحلق عاليا فوق أسوار مفاهيم (الجيل) بتعاقدات كتابة شعرية بارعة في تشييد محافلها الخاصة. إنه ليس شاعرا موسميا، بل وردة الرياح ذات المنشأ الغامض، التي تلقح بذرة كل فصول الشعر من بداية الثمانينات إلى الآن.

وثانيا، لكونه شاعرا يحب أن يكون لوحده وليس في الصف، يضع قدميه في نهر الشعر ليعمد خطره الشعري بأمومة الينابيع، تاركا شهقة ميلاد قصيدته تشرد في المصبات العميقة للهدير اللانهائي للبحر وأزرق أفق الشعر حيث تتوحد أرض الكينونة بسمائها.

هكذا هو، كما في ديوانه "حلم أعلى الوسادة" المميز بتشكيل إيقاعي فريد، يجعل من بلاغة التكرار كـ(أثر عائد) الأرغن الذي يعزف النشيد الكوني للقصيدة، وانتظام أنفاس الشعر في إيقاع (زمن دوري) يعيد المتشابه إلى ذاته كفقدان ينشد الاكتمال، حيث النص جملة واحدة، لكن الكينونة وجود متعدد الأقدار والمصائر، منزوع من مفارقاته التراجيدية، ومعاد إلى (رحم - أصل)  ينجب من استعاراته المتشابهة الألوان الطيفية للمعنى المغاير، الذي ينسف الوعي الثبوتي لمقولة (ليس في الإمكان أبدع مما كان).
يلجأ الشاعر في قصيدة "لا أطلب غفران الرسائل" إلى بلاغة التواتر من خلال لازمة استهلالية بخمس موجات:
 
-اليوم أطعم/ ناري كل الروايات..
-اليوم أنسى لتكبر/ ذاكرتي..
-اليوم أبعثني من/ رميم حروفي..
-اليوم أنسى لأبدأ/ من آخري..
-اليوم أغسل أجعل/ من قلمي عاملا للنظافة..
 
في الدرس البلاغي الحديث توصف بلاغة التواتر بالأنساق المتوازية وأيضا بمبدأ المساواة (...)، وهي في الأصل البلاغي القديم من ترصيعات البديع اللفظي وتندرج ضمن وصف (المقابلة) (...)، وفي قراءتها التي تنسج صنائعها من إستطيقا متخيل (الأثر العائد)، سنتعامل مع بلاغة التواتر باعتبارها (بناء إيقاعيا) لأزمنة الكينونة الشعرية. تلك الهندسات التي تبني مساكن الشعر في قلب العالم والوجود، وتحرر الذات من سطوة هيرقليطية الزمن-اللارجعة، مثلما تحرر اللغة من رسوخية الثابت والجاهز والنمطي لأنه لا معيار للكينونة إلا في جوهرها الحي الممتنع عن الإدراك والقياس وفي تحنيطات الوعي المفهومي للغة- الأداة، من خلال الذهاب إلى لغة ثانية، لغة أخرى تضع اللانهائي في تصادم مع النهائي، مولدة المعنى الشعري في تنسيباته الملقحة بدم الاختلاف. نقرأ من ذات القصيدة المشار إليها سابقا:
 
اليوم أُطْعِمُ
ناريَ كل الروايات حتى
تعود لمخطوطها
في الرماد
وأكتب
ملحمتي. لن أعيش
شخوصا وأزمنة غير
شخصيتي وزماني. سأخلع
عن جسدي ورقا سوّدته
المطابع كي أرتدي
ورقا من نسيج
الطبيعة ينبت في
شجر
لا أعريه إلا
ليسترني" (ص 24- 25).

ثمة بنية نصية (تقويضية) هي روح المعنى في الاستدلال السابق، حيث فعل التقويض يتماثل مع رمزية الاستعارة النارية (لإعادة كتابة الذات من رماد حرائقها). ثم لا تلبث تعود هذه البنية النصية التقويضية في الموجات الأربع الموالية متناسخة في (رمزيات المحو)

-النسيان الذي يعيد للذاكرة بهاءها.
-البعث الذي يمنح حياة ثانية للكتابة.
-النسيان (مرة أخرى) مثل صلصال المحو يعيد نشأة العالم.
-الغسل (كطقس تطهيري) لكنس صور ابتذال الوجود.

يتحول فعل التقويض إلى دينامية إيقاع يتأسس على حركة هدم وبناء، في قصيدة "أرقا أضيء فتتبعني الفراشات" وقصيدة "السبت لي ولها"، وهما نصان ينتسجان المحو في كتابة شعرية لتقويض الوجود في متواليات من إبدالات الأثر.

تتجسد صور المحو كتشخيص لعذاب إنساني في مواجهة الذات لسؤال المصير، اصطراخ اللغة بوجع الفقدان، وانشطارات الكينونة في حطام وهشيم المرايا:
 
لا أصدق
أني مجرد أنقاض
مجد
يهدمني كلما عدت أبكيه
يسجنني في العيون لأحشر
أعمى، لا أصدق أن
الرياح ستتبع محو
خطاي لأفقد في أثري
كل عنوان
لا أصدق
أن المرايا تكررنا لنصير
بدون وجوه" (ص 11- 12).

يشتغل الأثر العائد في الديوان من خلال استعارات المحو، واضعا حبر القصيدة في محبرة الزلزال. ثمة لغة تتشيد بين أنقاض معنى لم يعد قادرا على استيعاب فكرة الكائن، معنى منذور للزوال لأنه يحجب الكينونة عن تبصر جوهرها.

بلاغة (التكرار) لا ترد لترديد أمجاد اللحظة، ولا تؤبد الوجود في تماثيله ونسوخاته الشبحية، بل هو تكرار ذو طبيعة انفصامية، لأنه يجترح معناه من تراجيديا فاعلية (محو النقيض) ومن غور لغة شعرية تعري عن مفارقات الواقع، ومسوخ الأزمنة، وإبدالات الأغيار.

تجد الكينونة الشعرية صورها المتغياة والمرتجاة من خلال إعادة الكلام إلى مهود الصمت، ولغة الذاكرة إلى محاضن النسيان، وبلاغة التشبيه إلى مجازات الغيرية، وتفكيك متخيل المماثلة بشعرية النفي، التي تستبطن أبجدية الفراغ والبياض وسديم الهامش.

لغة شعرية تحرر القصيدة من ترسيبات (أفق الانتظار الجاهز)، لأنها تقود المعنى من معلومه إلى أقاصي مجاهيله، لغة تنحفر في الأعماق، وفي الهاويات، وفي غسق الظلال، وفي سبات الهامش، بحثا عن ذلك الضوء الفريد الذي يشع ككلمة أولى تضفي أسماء جديدة على مسميات الواقع والوجود:
 
لا عليَّ إذا لم أنم، بالغلاف
الأخير لغابة هذا الكتاب الذي في
حروفه أقرأ كل حياتي محوا، سأقفل
عمري لأبدأ ليلا طويلا يعلمني
كيف أنصت للصمت إذ يتكلم في
السر جهرا
...
سيعلمني الليل أن
أتعرى كما ولدتني النهارات من
رحم الشمس. لا ثوب يسترني غير
جلدي الذي طرزته النجوم لأغدو
دليل الفراشات تتبعني
أينما حل
ضوئي، وتنسى
بأني محض حريق" (ص 6- 7).
 
يندرج المتخيل الشعري لديوان "حلم أعلى الوسادة" للشاعر محمد بشكار ضمن ما يمكن أن نصفه (مجازات يقظة الكينونة). ففي كل قصائده هناك (فجر يصحو من داخل ليل العالم). وهو مجاز بعمق إستطيقي وأنطولوجي في آن واحد.

يكمن عمقه الإستطيقي في استرفاد عناصر صوره المجازية من (رمزية الطبيعة): شمسا وغروبا، فصولا وشتاء وسنبلة ونهرا وثمارا وجذرا ونواة وأغصانا وسماء.. كما في نصية المقطع التالي:

"وقد تشرق الشمس من/ حيث تغرب في بلد حين/ أرض تدور، النهايات/ أحوج كي تنتهي للبدايات، قد/ يبعث الجمر ملتهبا من رماد

وقد ينبع النهر حيث/ أصب إذا صرت بين الفصول/ شتاء، أعلم سنبلة حكمة في/ رحم الشمس/ السماد، لتعلم/ كل الثمار بأن النهايات/ جذر البدايات حين تصير/ نواة عليها يسير/ التراب وأعين/ أغصانها انتظروني/ قادمة للسماء" (ص 75- 76).

من مرموزات المجاز الطبيعي يرتسم فجر يقظة الكينونة في محافل طقس ميلادي يعيد اللغة إلى بكارة المعنى والوجود إلى رحمه الأمومي، يتوحد العمق الإستطيقي بالتجذيرات المؤسطرة لاستعارة (زمن البدايات)، وهي الموئل الرمزي لتجلي العمق الأنطولوجي لـ(ميلاد الكينونات).
 
الشاعر هو خزاف الترميم الأزلي لإعادة الوجود إلى مناشئه، الترميم الرمزي لأعطاب الكينونة في مدارك الوعي والفكر. الشعر لا يعمل كرافعات بناء لإعمار الواقع، ولكن مهمته الأنطولوجية هي حفظ الكينونة من الاندثار من خلال صون أحلامها التي تلغي مبدأ الاستحالة أو تفرض على الوجود قهرية العدم. ذلك أن أقدار الشعر تشتغل دوما باندفاعات باطنية لمناوءة أقدار الواقع.

يؤسس الشعر زمنه الخالص من خلال مواجهة استبداد المعنى وتحريره من طوق الجمود، وانتشاله من موته لكي لا يستحيل حجرا ثقيلا راسبا في بحيرة العدم.

-* ديوان "حلم أعلى الوسادة" لمحمد بشكار، منشورات بيت الشعر في المغرب سنة 2022.




في نفس الركن