العلم الإلكترونية - محمد بشكار
نادتِ الكلمة المحجوب الصفريوي وهو هناك في دار البقاء، كما ناداه هنا وهو بدار الفناء في اليوم الأول لالتحاقي بجريدة العلم، الأستاذ المرحوم عبد الجبار السحيمي، وما كاد المحجوب يَمْثُل حيث أمْثُل بين يدي الرئيس في مكتبه بمقر الجريدة القديم (شارع علال بن عبد الله بالرباط)، حتى بادره بالقول وكأنَّه يُسلِّمُه أمانةً كالتي تأتي عبر البريد، هذا الفتى يبدأ معنا في قِسْم التَّصْحيح، كنتُ في الطريق إلى قدَري، أسْترِق بين الهُدْب والآخر النَّظر إلى مُحيّا هذا الشَّيخ الوقور، لمحْتُ أسارير مُتبسِّمة وجفنين متورِّميْن إلى درجة الاحتقان، تُرى هل من السَّهر الذي كان يُفجِّر القريحة بما يملأ الكأس، أم أنَّ الرجل يمُر بوعْكة صِحيّة وأنا المريض بسِعة خيالي، لم يطُلْ شرودي الذي كان بحجْم الكولوار القصير الفاصِل بين قسم التصحيح ومكتب رئاسة التحرير، فقد أيقظَه سي المحجوب الصفريوي وهو يسلمني إلى مقعد لم أكُن أعرف أهو في الجنة أو الجحيم، فقط وضع أمامي رزْمةً من الأوراق يُنادُونها (برْوفات)، ثم أوْمَأ بعيْنيه الذَّكِيَّتين أنْ أبدأ الشُّغْل، ولم يفُتْني أنْ ألْمح طَيَّ إيماءته طيفاً يرِقُّ لحالي !
رغم نوازعي الإبداعية زمنئذٍ ذاتِ الشَّطْح والنَّطْح، إلا أنِّي انْقَدْتُ سلِساً طيِّعاً لهذا الشيخ، وأصبحتُ لا أبْرَح حيث يقفُ مُدخِّناً أو يجلس مُصحِّحاً كالمُريد، كنّا نتجاذبُ مع الحديث عن كِتابٍ قرَأهُ ويحُثُّني لِأقْرَأهُ أطْرافِ الدخَان، تنتهي السّيجارة ولا ينتهي النَّبْش ضارِياً يبحث عن المستحيل في الرّماد، ماذا اسْتَجدَّ من أسْماء المُبدعين والإصدارات والصُّحُف التي كانت في بداية موضتها الأسْبوعية، ولَشَدَّ ما يبْتئِس المحجوب حين أفوِّت عدداً ممتازاً من سلسلة "عالم المعرفة"، أو رواية لأحد الكُتاب المشهورين في سلسلة "الأدب العالمي"، كانت مثل هذه السِّلسلات لا تُعمِّرُ طويلا في الأكشاك، ليس فقط لجودة الكِتاب ولكن أيضا لثمنه الزهيد الذي يرْهَن تشجيع القراءة بمراعاة القدرة الشرائية، ولا أستطيع أنْ أصِف حماسة الصفريوي حين يقع عملٌ إبداعيٌّ في نفسِه موْقِع قطْرة العسل في العين، يُصفِّق بكفَّيه كطفل من شدة الطرب وما ذلك بغريب على عاشق الثقافة والأدب، ثمّ يصيح عليكَ يا بشكار برواية الكاتبة "توني موريسون" فقد أنْشأت فصولها على إيقاع الجاز، ولم يكُن الحديث الشَّجي ليُغْمِض أعْيُننا قيْد رمْشٍ، عن رؤية توافُد بْرُوفات التصحيح كما يفِدُ الجريح من المعركة إلى قسْم الإنعاش، كان المحجوب الطّبيب الجرَّاح، وكنتُ في تدريبي الأول، بين المُسِعِف والغافِل عن أخطاء لُغويّة قد تُسبِّبُ خسائر في الأرواح !
الحُكم للأيَّام هي التي تكْشِف ما الْتَبس مِنْ أوْهام، لم يكُن تورُّمُ جَفْنَيْ المحجوب حَدَّ الاحتقان، من ذلك السَّهر الذي يحتسي الليل أرجوانياً في جُرعة مع القمر، بل هو نتيجة إدمان من أفيون آخر، ولا يكْفي أنْ أقول إنَّ هذا التورُّم أحد أعراض نَهَم القِراءة، يُخيَّل إليَّ من كثرة الكُتب التي حدَّثتْني بِلسان الصفريوي، أنّ هذا الرجل اسْتَبدَل أرجُله بأرْمُش عينيه ليقْطَع وهو يقرأ مسافاتٍ أطْول لا متناهية السُّطور، يكْفي أن تذكُر عنواناً من الآداب العالمية أو العربية، لِيَحضُر الكتاب ويُصْبح بصوت المحجوب ورقاً ناطقاً، وكيف لِذاكرتي الضَّعيفة أنْ تحيط بوصف موسوعيَّته المُشْرَعة على كل الآفاق، ولكنَّها لا تنسى أبداً أنَّ هذا المُثقَّف والكاتب الكبير، كان يُدبِّر خفْيةً روايةً لا أعْرف أين وصل بفُصولها قبل أنْ يُدْرِكه الخريف الأخير، لِمرَّةٍ واحدةٍ فقط حدَّثني عن سِرِّه الروائي الدَّفين دون أن يُسْهِب في التفاصيل بخجل الكِبار، أمَّا اليوم فما أكثر من يَطْبَع رواية قبل أن يكتبها، تُرى ما مصير هذه الأوْراق التي رُبَّما توجز في أسطرٍ بخطِّ يده رحيقَ العمر !
شكراً بّا المحجوب ستبقى خالدا في ذاكرتي ما حييتُ عالي المَكانة تتسنَّم القلوب، لا يُهم إذا ضاعت الرواية، فقدْ تجاوزْتَ الورق وكتبْتَ ملحمة على صفحات الروح، لنْ أنسى أبداً سنة التدريب في قسم التصحيح والسنوات التي أعْقَبَتْها معك في مهنة الصحافة، نفعتْني كثيراً ليس فقط في المسالك الملغومة للتحرير، بل فِي كلِّ شؤون الحياة، خصوصاً تلك التي يسْتدعي عبورها بديهةً أسرع تُميِّز بين جمْع المُذَكَّر المُسالم والخطير!
نادتِ الكلمة المحجوب الصفريوي وهو هناك في دار البقاء، كما ناداه هنا وهو بدار الفناء في اليوم الأول لالتحاقي بجريدة العلم، الأستاذ المرحوم عبد الجبار السحيمي، وما كاد المحجوب يَمْثُل حيث أمْثُل بين يدي الرئيس في مكتبه بمقر الجريدة القديم (شارع علال بن عبد الله بالرباط)، حتى بادره بالقول وكأنَّه يُسلِّمُه أمانةً كالتي تأتي عبر البريد، هذا الفتى يبدأ معنا في قِسْم التَّصْحيح، كنتُ في الطريق إلى قدَري، أسْترِق بين الهُدْب والآخر النَّظر إلى مُحيّا هذا الشَّيخ الوقور، لمحْتُ أسارير مُتبسِّمة وجفنين متورِّميْن إلى درجة الاحتقان، تُرى هل من السَّهر الذي كان يُفجِّر القريحة بما يملأ الكأس، أم أنَّ الرجل يمُر بوعْكة صِحيّة وأنا المريض بسِعة خيالي، لم يطُلْ شرودي الذي كان بحجْم الكولوار القصير الفاصِل بين قسم التصحيح ومكتب رئاسة التحرير، فقد أيقظَه سي المحجوب الصفريوي وهو يسلمني إلى مقعد لم أكُن أعرف أهو في الجنة أو الجحيم، فقط وضع أمامي رزْمةً من الأوراق يُنادُونها (برْوفات)، ثم أوْمَأ بعيْنيه الذَّكِيَّتين أنْ أبدأ الشُّغْل، ولم يفُتْني أنْ ألْمح طَيَّ إيماءته طيفاً يرِقُّ لحالي !
رغم نوازعي الإبداعية زمنئذٍ ذاتِ الشَّطْح والنَّطْح، إلا أنِّي انْقَدْتُ سلِساً طيِّعاً لهذا الشيخ، وأصبحتُ لا أبْرَح حيث يقفُ مُدخِّناً أو يجلس مُصحِّحاً كالمُريد، كنّا نتجاذبُ مع الحديث عن كِتابٍ قرَأهُ ويحُثُّني لِأقْرَأهُ أطْرافِ الدخَان، تنتهي السّيجارة ولا ينتهي النَّبْش ضارِياً يبحث عن المستحيل في الرّماد، ماذا اسْتَجدَّ من أسْماء المُبدعين والإصدارات والصُّحُف التي كانت في بداية موضتها الأسْبوعية، ولَشَدَّ ما يبْتئِس المحجوب حين أفوِّت عدداً ممتازاً من سلسلة "عالم المعرفة"، أو رواية لأحد الكُتاب المشهورين في سلسلة "الأدب العالمي"، كانت مثل هذه السِّلسلات لا تُعمِّرُ طويلا في الأكشاك، ليس فقط لجودة الكِتاب ولكن أيضا لثمنه الزهيد الذي يرْهَن تشجيع القراءة بمراعاة القدرة الشرائية، ولا أستطيع أنْ أصِف حماسة الصفريوي حين يقع عملٌ إبداعيٌّ في نفسِه موْقِع قطْرة العسل في العين، يُصفِّق بكفَّيه كطفل من شدة الطرب وما ذلك بغريب على عاشق الثقافة والأدب، ثمّ يصيح عليكَ يا بشكار برواية الكاتبة "توني موريسون" فقد أنْشأت فصولها على إيقاع الجاز، ولم يكُن الحديث الشَّجي ليُغْمِض أعْيُننا قيْد رمْشٍ، عن رؤية توافُد بْرُوفات التصحيح كما يفِدُ الجريح من المعركة إلى قسْم الإنعاش، كان المحجوب الطّبيب الجرَّاح، وكنتُ في تدريبي الأول، بين المُسِعِف والغافِل عن أخطاء لُغويّة قد تُسبِّبُ خسائر في الأرواح !
الحُكم للأيَّام هي التي تكْشِف ما الْتَبس مِنْ أوْهام، لم يكُن تورُّمُ جَفْنَيْ المحجوب حَدَّ الاحتقان، من ذلك السَّهر الذي يحتسي الليل أرجوانياً في جُرعة مع القمر، بل هو نتيجة إدمان من أفيون آخر، ولا يكْفي أنْ أقول إنَّ هذا التورُّم أحد أعراض نَهَم القِراءة، يُخيَّل إليَّ من كثرة الكُتب التي حدَّثتْني بِلسان الصفريوي، أنّ هذا الرجل اسْتَبدَل أرجُله بأرْمُش عينيه ليقْطَع وهو يقرأ مسافاتٍ أطْول لا متناهية السُّطور، يكْفي أن تذكُر عنواناً من الآداب العالمية أو العربية، لِيَحضُر الكتاب ويُصْبح بصوت المحجوب ورقاً ناطقاً، وكيف لِذاكرتي الضَّعيفة أنْ تحيط بوصف موسوعيَّته المُشْرَعة على كل الآفاق، ولكنَّها لا تنسى أبداً أنَّ هذا المُثقَّف والكاتب الكبير، كان يُدبِّر خفْيةً روايةً لا أعْرف أين وصل بفُصولها قبل أنْ يُدْرِكه الخريف الأخير، لِمرَّةٍ واحدةٍ فقط حدَّثني عن سِرِّه الروائي الدَّفين دون أن يُسْهِب في التفاصيل بخجل الكِبار، أمَّا اليوم فما أكثر من يَطْبَع رواية قبل أن يكتبها، تُرى ما مصير هذه الأوْراق التي رُبَّما توجز في أسطرٍ بخطِّ يده رحيقَ العمر !
شكراً بّا المحجوب ستبقى خالدا في ذاكرتي ما حييتُ عالي المَكانة تتسنَّم القلوب، لا يُهم إذا ضاعت الرواية، فقدْ تجاوزْتَ الورق وكتبْتَ ملحمة على صفحات الروح، لنْ أنسى أبداً سنة التدريب في قسم التصحيح والسنوات التي أعْقَبَتْها معك في مهنة الصحافة، نفعتْني كثيراً ليس فقط في المسالك الملغومة للتحرير، بل فِي كلِّ شؤون الحياة، خصوصاً تلك التي يسْتدعي عبورها بديهةً أسرع تُميِّز بين جمْع المُذَكَّر المُسالم والخطير!