أنا لا أقارن السيء بالأكثر سوءاً أو الأقل سوءا بل تنبغي المقارنة بين السيء والجيد، بين العسف والحرية المسؤولة الواعية، بين الفقر والسعادة، بين الوطن النظامي والوطن العشوائي، بين وطن السجون ووطن المدارس..!
الفرق بين نظام الدكتاتور وبين من أتى من بعده وهما يلتقيان معاً فيما أطلق عليه "محو العراق" المخطط له من قبل قوى تاريخية تستهدف الوطن العراقي، إن نظام الدكتاتور كان يتقن عملية تنفيذ المهمة المتمثلة بمحو العراق وكان يصفي خصومة بطرأئق سرية تتمثل أغلبها في بيوت سرية أطلق عليها المجتمع الدولي "بيوت الأشباح" وفي قاتل مجهول أطلقوا عليه إسم "أبو طبر" يرعب الناس ليلا، تحت غطاء برامج المصارعة التي لا تقهر ينفذها عدنان القيسي.. وتصفية الخصوم في عمليات الدهس بالشاحنات.. أما من أتى بعده فإنهم يتصرفون خارج مفهوم السلطة، أقصد البدائية في مواجهة الخصوم، فتتم تصفية خصومهم بطريقة بدائية تتمثل بتصفيات الشوارع والمسدسات الكاتمة والخطف والإختفاء القسري، ويتم كل شيء ببساطة متناهية وأمام كاميرات المراقبة، ووضع الخصوم في سجون أشبه بأقفاص الدجاج وينتشر البغاء والإغتصاب الجنسي داخل المعتقلات والسجون وتستباح تلك السجون البشعة من قبل كاميرات القنوات الفضائية المشبوهة والشيطانية، لتصبح الأخبار المصورة لقمة سائغة في أفواه منظمات حقوق الإنسان!
وحين كان حلم المواطن العراقي في زمن الدكتاتور هو الهجرة هرباً من حالة الخوف التي كانت حالة مادية ملموسة وليست فقط محسوسة حيث تمكن النظام من تفكيك العائلة بين رقيب ورقيب مضاد، وكان المواطن لا يستطيع طبعاً، أن يتظاهر فذلك يندرج ليس في خانة المستحيلات بل ولا حتى في خانة المعجزات، فإن حلم المواطن العراقي بات اليوم يتمثل في الحصول على كهرباء لست ساعات بدلا من ساعتين وحلم المواطن صغر وأختصر بقدح نظيف من الماء بشكل مؤكد لا يدعو للقلق .. وخبزة ليست ملوثة، وصار الكثير من المواطنين يبتهلون الله أن لا ينزل عليهم المطر وهي ظاهرة غريبة تتناقض وصلاة الإستسقاء.. حتى لا تنهار سقوف منازلهم وتودي بحياتهم.. وصاروا حين تنهمر الأمطار مدراراً مصحوبة بالعواصف والرعود يقرأون من سورة الزلزلة "إذا زلزلت الأرض زلزالها وأخرجت الأرض أثقالها وقال الإنسان ما لها يومئذ تحدث أخبارها بأن ربك أوحى لها".. وحين يحلو للدكتاتور أو لأي من أقرابائه إعدام مواطن، فإنه يرسل جثمانه إلى أهله، في كيس ويأمرهم بأن لا يقيموا مجلس العزاء ويأخذ منهم ثمن الإطلاقات التي قتلت إبنهم .. اليوم باتت الأمهات بمقدورها أن تقيم خيمة أمام مقر المحافظ تطلب أن تتعرف على قتلة إبنها، ولكن الإبن ذات الأبن قد مات في الحقبتين! فما الفرق بين أن تدفع الأم ثمن أطلاقات قتل ولدها أو تدفع ثمن الخيمة لتقيم فيها قبالة بيت المحافظ أو مركز المحافظة!؟
هنا يطرح السؤال الأزلي.. لماذا توقفت محاكمة الدكتاتور صدام حسين ولماذا لا يحاكم محكمة تستمر في الأقل لقرن من الزمان كما محاكمة هتلر في نورمبرغ، حتى تتعرف الأجيال الآتية على مجريات ما حصل لأهليهم وذويهم، ولماذا إختصرت محاكمة صدام حسين عن جريمة واحدة حين سمع إطلاقة من بساتين النخيل فيما كان في زيارة للدجيل .. فإنزعج فخامته وأباد القرية بمن فيها بدم بارد .. وإنتهت المحاكمة وكأن الدكتاتور لم يبن أو يحفر بيوت الأشباح المرعبة تحت الأحراش بين المدن وتحت صالونات الحلاقة وستوديوهات التصوير الفوتوغرافي ومحلات الخياطة، ليقيم مصانع للتعذيب والتشريح والإغتصاب وليبقى السجناء هياكل عظمية حتى تتلاشى أرواحهم وحدها ويحرق رفاتهم.. والغى من القراءة الخلدونية من دق بابنا وزير زيران وحل محلها بالروح بالدم نفديك يا صدام.. وكانت قوافل النعوش تعود من جبهة الحرب ومناشير المستشفيات تعمل ليل نهار في بتر السيقان والأذرع حتى بلغ عدد شهداء الحرب أو قتلى الحرب مليوني مواطن عراقي وأكثر من مليون مشوه ومعوق، ليدفع بالجيش المنهك من جبهة الحرب مع إيران نحو الكويت في مواجهة بلدان العالم فإستشهد الجنود المنهكون ورفعوا ملابسهم الداخلية رايات للإستسلام للجنود الأمريكان من أجل "جغمة" ماء كانوا يشيرون بأصابعهم نحو أفواههم وهم يسجدون ليقبلوا بصاطيل الجنود .. أم نسيتم تلك المشاهد التلفزيونية؟ ومن كابر في شموخه كان طعاما للذئاب في الصحراء بين البصرة والكويت .. وفي خضم هذه المشاهد الدموية والمخيفة، كان الشعراء يكتبون الأشعار رجزاً ويغنيها المطربون وهم يدبكون "فوت بيها وللزلم خليها.." و"هلا بصدام" يصطف كورس الممثلين وتستعرضهم الكاميرا رائحة غادية والممثلون يتسابقون في فتح أفواههم كل أكثر من صاحبه، وتعلو أصواتهم من أجل أن تكون "السيارة full option”" أم نسيتم المشاهد التلفزيونية؟! ليعود الشعراء والممثلون والقتلة الذين كانوا يسكنون بيوت الأشباح لينخرطوا بعد سقوط النظام في التيارات المتباينة المتناغمة في غياب الدولة التي ظنت أنها بديلة لنظام سافل.. ولكن من مؤشرات إيقاف محاكمة الطاغية إنها سوف تظهر ذات الحيثيات وذات الإدانات على واقعها وأدائها .. ولهذا السبب أسدل الستار قبل أن نرى حقيقة أحداث المسرحية وحقيقة الممثلين.. إسدل الستار بعد الفصل الأول لأن مخرج المسرحية يعرف أننا لسنا بحاجة لمشاهدة الفصل الثاني والثالث، فالمسرحية الثانية مستنسخة من المسرحية الأولى مع بعض التباين في شكل العرض المسرحي ومتباينة في الأداء، لمسرحية عنوانها "ما أشبه الليلة بالبارحة!"
قاسم حول سينمائي وكاتب عراقي مقيم في هولندا