تستمر وتتواصل وبشكل متسارع أكثر من أي وقت خلال السنوات العشر الماضية، عمليات التحول والتطور العميقة والتقلبات في الساحة الدولية، سياسيا واقتصاديا وعسكريا، مما يؤكد دخول العالم فترة انتقالية سيتمخض عنها نظام عالمي جديد مختلف عن ذلك الذي ساد سواء خلال فترة الثنائية القطبية والحرب الباردة بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، أو مرحلة القطبية الواحدة بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية بعد انهيار الاتحاد السوفيتي نهاية العقد الأخير من القرن العشرين.
شكلت المواجهة الروسية الأوكرانية التي اندلعت في فبراير 2014 بعد الانقلاب الموالي للغرب في كييف، ثم استرجاع الكرملين لشبه جزيرة القرم وضمها إلى روسيا الاتحادية بعد استفتاء سكانها، أحد المنعطفات الهامة حسب كثير من المحللين في المواجهة المتجددة بين موسكو والغرب وذلك بعد خروج الكرملين من مرحلة التراجع أمام الضغط الغربي، وتعثر التعافي المرحلي للغرب من الأزمة الاقتصادية العالمية لسنة 2008.
بعد أشهر قليلة وفي 30 سبتمبر 2015 تدخلت القوات الروسية رسميا في الشرق الأوسط لدعم الجيش العربي السوري في الحرب شبه الدولية التي يخوضها منذ منتصف شهر مارس 2011 ضد تحالف مختلط، وتم عمليا بذلك تجميد مشروع المحافظين الجدد للشرق الأوسط الجديد أو الكبير بأسلوب الفوضى الخلاقة وتقسيم دوله على أسس دينية وعرقية ومناطقية إلى ما بين 54 و 56 دويلة.
خلال السنوات الثماني التي تلت الجولة الأولى من الحرب في وسط شرق أوروبا، وتجمد مخطط الشرق الأوسط الجديد، شهد الغرب وعلى رأسه الولايات المتحدة انحسارا في نفوذه السياسي والاقتصادي في عدة مناطق من العالم خاصة في الشرق الأوسط وأفريقيا وأمريكا اللاتينية، وقامت العديد من دول هذه المناطق بتعزيز علاقاتها مع كل من موسكو وبكين وكذلك مع قوى أخرى في أقاليمها.
وسط العاصفة العالمية التي ولدتها الجولة الثانية من المواجهة الروسية مع حلف الناتو في وسط شرق أوروبا والتي دخلت سنتها الثانية، تسارعت التحولات في موازين العلاقات الدولية ومعها أشكال التحالفات.
قد يصبح يوم الجمعة السبت 10 و 11 مارس 2023 مؤشرا على نقلة جديدة في مخاض النظام العالمي، فبفارق ساعات أعلن عن استئناف العلاقات السعودية الإيرانية بفضل وساطة صينية، فيما أعلن في واشنطن عن إفلاس بنك “سيليكون فالي” الذي يعتبر في المرتبة 16 من حيث الأهمية بين البنوك الأمريكية وهو ما ولد ذعرا من كارثة تضرب ليس الاقتصاد الأمريكي وحده بل الغرب كله.
نهاية قطيعة
أعلنت السعودية وإيران، الجمعة 10 مارس 2023، الاتفاق على إعادة العلاقات الدبلوماسية المقطوعة بينهما منذ عام 2016، وفقا لبيان مشترك صدر عن البلدين.
وقال البيان المشترك الذي نشرته وكالة الأنباء الرسمية السعودية “واس” إنه وبعد محادثات في الصين “تعلن الدول الثلاث أنه تم توصل المملكة العربية السعودية والجمهورية الإسلامية الإيرانية إلى اتفاق يتضمن الموافقة على استئناف العلاقات الدبلوماسية بينهما وإعادة فتح سفارتيهما وممثليتاهما خلال مدة أقصاها شهران”.
وأضاف أن الاتفاق جاء استجابة لمبادرة من الرئيس الصيني شي جين بينغ وبدعم من الصين لتطوير علاقات حسن الجوار بين المملكة العربية السعودية والجمهورية الإسلامية الإيرانية.
وأضاف البيان أن الاتفاق يتضمن تأكيد البلدين “على احترام سيادة الدول وعدم التدخل في شؤونها الداخلية”.
وأكد البيان الاتفاق على “أن يعقد وزيرا الخارجية في البلدين اجتماعا لتفعيل ذلك وترتيب تبادل السفراء ومناقشة سبل تعزيز العلاقات بينهما”.
وأعربت كل من الدول الثلاث عن حرصها على بذل كافة الجهود لتعزيز السلم والأمن الإقليمي والدولي، وفقا للبيان.
وقال البيان إن المباحثات التي سبقت الإعلان جرت في الفترة من السادس ولغاية العاشر من الشهر الجاري في بكين، بين وفدي السعودية وإيران برئاسة مستشار الأمن الوطني في المملكة مساعد بن محمد العيبان وأمين المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني علي شمخاني.
واتفق الطرفان على تفعيل “اتفاقية التعاون الأمني” الموقعة بينهما في عام 2001، و”الاتفاقية العامة للتعاون في مجال الاقتصاد والتجارة والاستثمار والتقنية والعلوم والثقافة والرياضة والشباب”، الموقعة في عام 1998.
وعبر الجانبان الإيراني والسعودي عن تقديرهما وشكرهما للعراق وسلطنة عمان لاستضافتهما جولات الحوار التي جرت بين الجانبين خلال العامين الماضيين.
وزير الخارجية السعودي فيصل بن فرحان صرح من جانبه أن استئناف بلاده العلاقات الدبلوماسية مع إيران يأتي انطلاقا من رؤيتها القائمة على تفضيل الحلول السياسية والحوار وحرصها على تكريس ذلك. وأضاف: “يجمع دول المنطقة مصير واحد، وقواسم مشتركة، تجعل من الضرورة أن نتشارك سويا لبناء أنموذج للازدهار والاستقرار لتنعم به شعوبنا”.
وقطعت السعودية علاقاتها مع إيران في يناير 2016، بعد تعرض سفارتها في طهران وقنصليتها في مشهد، لاعتداءات من قبل محتجين على إعدام الرياض رجل الدين السعودي الشيعي نمر النمر.
صفعة ثلاثية الأبعاد
مثلت رعاية الصين لوساطة بين السعودية وإيران صفعة لواشنطن التي كانت قد تهيأت لعطلة هادئة بعد أسبوع طويل أكتظ بالعديد من الأحداث المعقدة خاصة في ظل علاقات واشنطن المضطربة بأطراف الاتفاق الثلاثة الصين وإيران والسعودية.
تقول توفيا غيرنغ، وهي باحثة في المجلس الأطلسي والتي كتبت على نطاق واسع عن الدور الإقليمي المتنامي لبكين: “كان الأمر أن الولايات المتحدة كانت القوة التي لا غنى عنها.. الآن الصين قوة لا غنى عنها في الشرق الأوسط – هذه حقيقة”.
ونقلت وكالات الأنباء عن وانغ كبير المبعوثين الدوليين للرئيس الصيني قوله، إن “الوساطة الصينية بين السعودية وإيران تشكل نموذجا لحل النزاعات والخلافات بين الدول من خلال الحوار والتشاور”.
ويشير محللون إن دفء العلاقات الصينية تجاه إيران والسعودية جعلها تبدو وكأنها تهدف إلى تقويض القوة الأمريكية، وكذلك علاقته الدائمة مع روسيا، وهي مورد آخر للطاقة.
والجمعة، بدا وانغ وكأنه ينتقد الولايات المتحدة بالقول إن الصفقة السعودية الإيرانية أظهرت كيف أن البلدين “يتخلصان من التدخل الخارجي، ويأخذان حقا مستقبل ومصير الشرق الأوسط بأيديهما، على الرغم من أنه لم يذكر الولايات المتحدة على وجه التحديد.
وعبرت ردود فعل الخبراء والمراقبين الأمريكيين عن صدمة غير متوقعة، لدرجة استخدام بعضهم عبارات غير دبلوماسية لوصف ما جرى.
ورغم إعلان البيت الأبيض أن أمريكا بقيت على اطلاع بمحادثات بكين بين السعودية وإيران، وتأكيده أن هذا الاتفاق يعمل في جانب آخر على إنهاء الحرب في اليمن، وتشكيك البيت الأبيض في تنفيذ إيران للاتفاق، إلا أن هذا لا يخفي ضيق أمريكا من تزايد اهتمام الصين بمنطقة الشرق الأوسط، مستغلة قيام أمريكا ومنذ رئاسة الرئيس الأمريكي دونالد ترمب بالابتعاد عن المنطقة التي كانت واشنطن سببا في حروبها الأخيرة.
توتر علاقات واشنطن وبكين
يأتي نجاح الوساطة الصينية في ظل تصاعد التوتر بين بكين وواشنطن ومع بدء جلسات لجنة خاصة في مجلس النواب الأمريكي للنظر في التهديدات الصينية للهيمنة الأمريكية حول العالم، وهو ما اعتبرته بكين عاكسا لحالة من الهستيريا ضدها في العاصمة الأمريكية، فضلا عن التوتر التقليدي حول تايوان على خلفية تقديم واشنطن دعما سياسيا وعسكريا متواصلا لها، واستمرار أعضاء الكونغرس في زيارتها، وتوطيد واشنطن علاقاتها بجيران الصين وتحريضهم ضدها بإنشاء تحالف رباعي مع اليابان وأستراليا والهند، وتحالف ثلاثي مع بريطانيا وأستراليا والسعي لإقامة سلسلة من القواعد العسكرية لحصار الصين.
كما عقدت واشنطن اتفاقية أمنية مع الفلبين تمكن الأسطول الأمريكي من استخدام الموانئ الفلبينية، بالإضافة إلى قيام إدارة بايدن بالتضييق على تصدير التكنولوجيا المتقدمة من أشباه الموصلات للصين، كما حظرت التعامل مع عدد من عمالقة التكنولوجيا الصينية كشركة هواوي وتضغط على دول العالم لتخفض مبادلاتها التجارية مع الصين وتقاطع شركاتها.
وتعهدت إدارة الرئيس بايدن كذلك بفرض عقوبات على الصين إن صحت تقارير عن نية بكين إمداد روسيا بأسلحة تدعم بها حربها في أوكرانيا، وأشارت تقديرات الاستخبارات الأمريكية إلى نية الرئيس الصيني شي جين بينغ زيارة موسكو ولقاء الرئيس فلاديمير بوتين قريبا.
بصرف النظر عن حسابات المكسب والخسارة بالنسبة إلى الولايات المتحدة، فقد كان هناك تفهم لدى بعض الأوساط في واشنطن للدوافع والأسباب التي جعلت السعودية تمضي قدما في الاتفاق حتى النهاية، حيث يشير مدير مبادرة “سكوكروفت” الأمنية للشرق الأوسط والمسؤول السابق في مجلس الاستخبارات القومي الأمريكي لشؤون الشرق الأدنى جوناثان بانيكوف، إلى أن قرار السعودية استئناف العلاقات الدبلوماسية وتبادل السفراء مع إيران، يعود إلى سياسة هادئة مستمرة منذ سنوات وإلى النمو الكبير في التجارة بين البلدين خلال عام 2022، لكنه يعكس أكثر رغبة السعودية في خفض درجة التوتر مع إيران.
ويذكر بانيكوف، على موقع المجلس الأطلسي، إن التركيز الاستراتيجي الأساسي للسعودية هو تنويع اقتصاد البلاد، ولتحقيق ذلك، ترى الرياض أن أمنها أمر بالغ الأهمية لضمان عدم تعطل عمليات التنقيب عن النفط والنقل والمبيعات، والأهم من ذلك أن ينظر إلى البلاد على أنها مكان آمن للاستثمار الأجنبي المباشر طويل الأجل، ومن هذا المنظور ستقلل الاتفاقية من احتمالات التصعيد والتوتر في المنطقة.
وفي حين تعتبر الخبيرة السياسية والإستراتيجية في المجلس الأطلسي كارميل أربيت أنه من السابق لأوانه الحكم على ما إذا كان التقارب بين السعودية وإيران سيتحول إلى علاقة أعمق في المستقبل، فإن الاتفاق كشف عن أن السعوديين يعرفون كيف يستخدمون ما بحوزتهم من أوراق ويقومون بسياسة تحوط مناسبة لهم، فالاتفاق مع إيران يساعدهم على التقرب أكثر من الصينيين، الذين تفاوضوا على الاتفاقية، ويمكن أن تعزز مكانتهم في العالم الإسلامي، كما أنها تدعم دور المملكة كقائدة في منطقة ديناميكية بشكل متزايد تبحث عن مزيد من الاستقلال عن الولايات المتحدة.
ويسلط هذا التطور الضوء على إستراتيجية التنويع في السعودية التي تتخذ فيها الرياض مواقف قوية وجريئة تجاه الولايات المتحدة في شأن القضايا الحرجة، أخيرا، والانفتاح أكثر على روسيا والصين.
ضربة في وجه إسرائيل
إسرائيل استقبلت أنباء التقارب بين السعودية وإيران بالدهشة والقلق والتأمل، بحسب تعبير صحيفة “نيويورك تايمز”، فقد قوض الإعلان عن الاتفاق آمال إسرائيل في تشكيل تحالف أمني إقليمي ضد إيران، ففي حين أن دولا أخرى في الشرق الأوسط قد ترى إيران كتهديد، فإنها لا ترى مكاسب تذكر في عزل ومعارضة طهران إلى الحد الذي تفعله إسرائيل، التي تنظر إلى إيران وبرنامج أسلحتها النووية على أنهما خطر على بقاء إسرائيل ذاته، بينما ترى الدول العربية المجاورة لإيران أن طهران جار مزعج يمكن التعامل معه.
ويقول نائب مساعد وزير الدفاع الأمريكي السابق وليام ويشسلر، إن إسرائيل تنظر إلى الاتفاق على أنه خطوة محسوبة لتقليل خطر العمل العسكري ضد إيران، وتأمل في ألا يكون الإعلان التالي هو استئناف المباحثات الأمريكية- الإيرانية حول خطة العمل الشاملة المشتركة التي توسطت فيها الصين مرة أخرى، ما يضعف من الردع الأمريكي- الإسرائيلي ضد إيران.
مساء يوم الجمعة 10 مارس قالت صحيفة “يديعوت أحرونوت” الاسرائيلية، إن اتفاق السعودية وإيران يعتبر بمثابة “بصقة” في وجه إسرائيل. وأضافت أن هذا الاتفاق “يمكن أن يلحق ضررا شديدا بالجهود المبذولة لتوسيع اتفاقيات إبراهيم لتشمل السعودية، التي بدا أنها أصبحت مقتنعة أن إسرائيل لا تملك حاليا خيارا عسكريا موثوقا ضد إيران وقررت التهدئة والتوصل إلى تفاهم مع الجمهورية الإسلامية”.
وذكر إيتمار آيخنر، المراسل الدبلوماسي لصحيفة “يديعوت أحرونوت” في تحليل له: “الاتفاق، هو خطوة دراماتيكية تعتبر تعبيرا عن عدم الثقة في القيادة الأمريكية أولا وقبل كل شيء، وكذلك تعبير سعودي عن عدم الثقة في رؤية رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، لعزل إيران.
ومضى آيخنر بقوله: “نتنياهو، على ما يبدو، تلقى ضربة لجهوده، لأن نظرته للعالم سوداء أو بيضاء: إما أن تكون في الجانب الإيراني، أو أنك ضده.. نظرت إسرائيل إلى السعودية كدولة في معسكر المعارضة لإيران، وكان هذا أيضا السر السحري للعلاقة السرية التي حافظت عليها إسرائيل والسعودية.. في المملكة، رأوا إسرائيل كحليف يمكنه معارضة إيران كنوع من بوليصة التأمين، وحول طهران تم بناء الأساس الكامل للعلاقات الدافئة”.
وتابع: “من الناحية العملية، أي شخص يبحث عن دليل على مدى عدم توقع إسرائيل لهذا الاتفاق اليوم كان عليه أن يستمع إلى كلمات رئيس الوزراء نتنياهو هذا الصباح فقط، في خطاب لرجال الأعمال الإيطاليين في وزارة الاقتصاد في روما”.
ومضى: “قال نتنياهو: هدفي هو تحقيق التطبيع والسلام مع السعودية، والإمكانيات الاقتصادية واضحة.. ربط سكك حديد المملكة العربية السعودية وشبه الجزيرة العربية عبر الأردن، بميناء حيفا.. الأمر يتطلب فقط إضافة 200 كيلومتر من السكك الحديدية لربط خط أنابيب نفط مباشر من شبه الجزيرة العربية إلى البحر الأبيض المتوسط عبر إسرائيل.. وهذا يعني أنه يمكننا تقصير إمدادات الطاقة التي تحتاجها أوروبا بشكل كبير وتجاوز قناة السويس.. أعتقد أن هذه احتمالات حقيقية”.
واعتبر المحلل الإسرائيلي أنه “إذا تم تنفيذ الاتفاق بين السعودية وإيران بالفعل، فهو أيضا ضربة خطيرة لجهود نتنياهو لتوسيع اتفاق إبراهيم.. قدم نتنياهو اتفاق سلام مع السعودية على أنه هدفه الرئيسي.. الجائزة الكبرى.. كان يشدد على أنه إذا كان هناك اتفاق مع السعودية، فسيتم حل الصراع الإسرائيلي الفلسطيني”.
قواعد لعب جديدة
بدوره كتب المحلل تسفي برئيل في صحيفة هآرتس يوم 12 مارس 2023:
حلم إسرائيل بإقامة تحالف عربي دولي ضد إيران تبدد في يوم الجمعة. هذه الخطوة الدراماتيكية يمكن أن ترسم خارطة علاقات جديدة في الشرق الأوسط وخارجه. فهي ستمنح شرعية حيوية لإيران في أوساط الدول العربية في المنطقة، الأمر الذي سيثمر فيما بعد علاقات دبلوماسية أيضا مع دول أخرى مثل مصر.
الاتفاق حتى يمكن أن يمهد الطريق أمام انتهاء الحرب في اليمن وأن يؤدي إلى حل قابل للبقاء للأزمة في لبنان، وربما أيضا أن يدفع إلى استئناف المفاوضات حول الاتفاق النووي. هذا تطور سيجبر الولايات المتحدة أيضا على إعادة فحص موقفها بعد أن ثبت بأن الصين – ليس واشنطن أو موسكو – هي التي نجحت في إعادة تشكيل بنية سياسية معقدة، التي بصورة تقليدية كان يمكن أن تكون برعاية وإدارة أمريكا.
في 25 مارس 2015 أعلنت السعودية الحرب على الحوثيين في اليمن، إيران فتحت الباب للتدخل في دولة أخرى في المنطقة – إضافة إلى لبنان والعراق.
هذه الحرب التي قتل فيها تقريبا 150 ألف شخص تحولت إلى محور خلاف رئيسي في العلاقات بين السعودية والولايات المتحدة والدول الأوروبية.
في نفس السنة كانت إيران ما تزال خاضعة لبنود الاتفاق النووي. ممثلون لشركات دولية كانوا يقفون على بابها وصفقات ضخمة وقعت، وكان يبدو أنه بفضل حرصها على تطبيق الاتفاق فهي ستحل محل السعودية كحليفة للولايات المتحدة والغرب بشكل عام. ولكن ضائقة السعودية لم تستمر فترة طويلة. في مايو 2018، بضغط من إسرائيل، أعلن الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترمب عن الانسحاب من الاتفاق النووي. بعد ذلك بسنة بدأت إيران الانسحاب من التزامها بشروطه.
ترمب دفع قدما بعد ذلك بـ “صفقة القرن” و”اتفاقات ابراهيم”، ودفع نحو إقامة التحالف العربي ضد ايران. ولكن في العام 2021 تبين أن هذا تحالف خيالي عندما سحبت دول قواتها من اليمن وأبقت السعودية وحدها في الحرب. بعد ذلك بسنة، في اغسطس 2022، استأنفت أبو ظبي والكويت العلاقات مع إيران، بعد شهر فقط على الزيارة المثيرة للخلاف لبايدن في جدة.
ايضا بعد هذه الزيارة لم ينمو أي حب كبير في الزعيمين. في أكتوبر 2022 تلقى بايدن صفعة مدوية عندما أعلنت السعودية بأنها لا تنوي زيادة حصتها في إنتاج النفط – مثلما طلب بايدن، الذي كان يهدف إلى التغلب على أزمة الطاقة بسبب الحرب في أوكرانيا. هذه لم تكن ضربة وحيدة من جانب الرياض.
في ديسمبر 2022 رافقت أربع طائرات قتالية سعودية طائرة الرئيس الصيني شي جينبينغ أثناء زيارته الرسمية، فعليا الملكية، في السعودية. هذه لم تكن الزيارة الأولى له في السعودية. ولكن في هذه المرة وقع تحالف استراتيجي يشمل اتفاقات تجارية واستثمارات بعشرات ملايير الدولارات، وبالأساس تطوير مفاعل نووي لغرض إنتاج الكهرباء لصالح الرياض. السعودية أرادت منذ سنوات من الولايات المتحدة أن تساعدها في بناء مثل هذه المفاعلات، لكن الطلبات التي قدمتها الولايات المتحدة – منها تلبية شروط الوكالة الدولة للطاقة النووية – شطبت هذا التعاون من الأجندة. في 2020 نشرت صحيفة “وول ستريت جورنال” عن برنامج مقلق للتعاون بين الصين والسعودية لإنتاج “كعكة صفراء” من خام اليورانيوم الموجود بكثرة في السعودية. بعد فترة قصيرة نشر أن المخابرات الأمريكية تفحص معلومات تفيد بأن السعودية تريد إقامة منشأة لإنتاج المياه الثقيلة بمساعدة الصين.
هكذا تحولت الصين إلى حليفة إستراتيجية، سواء للسعودية أو لإيران. قبل سنتين تقريبا وقعت بكين وطهران على اتفاق استثمارات وتعاون اقتصادي بمبلغ 400 مليار دولار خلال 25 سنة.
على خط التماس هذا دخلت الصين إلى دور الوسيط بين السعودية وإيران من أجل بناء منظومة علاقات تخدم جيدا مصالح الدول الثلاثة دون الحاجة إلى خدمات أو موافقة الولايات المتحدة. إلى جانب ذلك بكين آخذة في احتلال مكانة واشنطن ليس فقط في المجال الاقتصادي. فقد تحولت إلى قوة إستراتيجية إقليمية، التي قدرة إسرائيل على التأثير عليها محدودة جدا.
لبنان اليمن سوريا
يرى محللون أنه لو تطورت العلاقات السعودية مستقبلا بشكل إيجابي مع طهران فإن دولا عربية أخرى ستتخذ خطوات تطبيع مشابهة، وسيمهد الطريق لحل مشاكل لبنان خاصة عبر انتخاب رئيس جديد للجمهورية وسيمكن تخفيف الاحتقان الطائفي وفتح الباب أمام الاستثمارات والمساعدات لبيروت ليمكن لهذا البلد الخروج من متاهة الأزمة الاقتصادية ومسبباتها. الأمر نفسه ينطبق على سوريا التي تسعى العديد من الدول العربية لإعادتها إلى جامعة الدول العربية كما سيوجه الاتفاق ضربة للجهود الأمريكية التي تريد عزل دمشق وتوثيق حصارها وإجبار بقية دول العالم على رفض التطبيع والتعامل معها.
المحلل السياسي السعودي، عبدالله الرفاعي، قال في حديث لموقع “الحرة” إن هذا “التقارب السعودي-الإيراني قد يؤثر على جميع الملفات، التي تشكل بؤر توتر في العلاقات”. وأضاف أن من أهم هذه الملفات التي سيطالها التأثير “الملف اليمني”.
من جانبها رحبت الحكومة اليمنية بالاتفاق مؤكدة على إيمانها بـ”الحوار وحل الخلافات بالطرق الدبلوماسية والوسائل السلمية”، وقالت في بيان نشرته وكالة الأنباء الرسمية “سبأ” إن “موقفها يعتمد على أساس الأفعال والممارسات لا الأقوال، والادعاءات، ولذلك ستستمر في التعامل الحذر تجاه النظام الإيراني حتى ترى تغيرا حقيقيا في سلوكه، وسياساته التخريبية في بلادنا والمنطقة”.
بدورها رحبت جماعة الحوثي في اليمن وحزب الله اللبناني المدعومين من إيران بالاتفاق، الجمعة.
وصرح كبير مفاوضي جماعة الحوثي، محمد عبد السلام: “المنطقة بحاجة إلى استئناف العلاقات الطبيعية بين دولها حتى تستعيد الأمة الإسلامية أمنها المفقود نتيجة التدخل الأجنبي”، بحسب تقرير لوكالة رويترز.
الإعلامي اليمني، مدير قسم البرامج السياسية في قناة المسيرة التابعة للحوثيين، حميد رزق، اعتبر أن عودة العلاقات بين الرياض وطهران “خطوة مرحب بها، وهي الأصل في العلاقات بين الدول العربية والإسلامية”.
الباحثة في المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية، سينزيا بيانكو، ذكرت لوكالة رويترز إن الرياض كانت تسعى للحصول على ضمانات أمنية من الإيرانيين، وهو ما قد يكون توافر من خلال إعادة تفعيل الاتفاقية الأمنية لعام 2001. وأضافت أن إيران ربما استجابت أيضا بشكل إيجابي لدعوات الرياض لها “لدفع الحوثيين نحو توقيع اتفاقية سلام مع السعودية، تحرر السعوديين من حرب اليمن التي صارت خاسرة بالنسبة لهم”.
نبيل البكيري، باحث يمني كان أكثر حذرا في اعتبار أن الإعلان عن الاتفاق بين الطرفين يعد نجاحا أو عاملا لاستقرار المنطقة، وقال إن “عودة العلاقات السعودية الإيرانية هو مؤشر على مرحلة جديدة يحوطها الكثير من الشك والارتياب في مدى جدية عودة مثل هذه العلاقات”.
وأضاف في رد على استفسارات موقع “الحرة” أن هناك “تاريخا طويلا من الشك كان يحكم مسار العلاقة بين الطرفين، ومن المبكر جدا الحديث عن نجاح هذه العلاقات واستدامتها، وصحيح أن الطرفين بحاجة ماسة للتهدئة، ولكن من غير المعلوم إلى مدى سينجحان في الاستمرار في تعزيز هذه العلاقات”.
الباحثة في معهد “مجموعة الأزمات الدولية”، دينا اسفندياري، صرحت لوكالة فرانس برس إن الاتفاق غير متوقع.
وتوضح “كان الشعور العام هو أن السعوديين كانوا محبطين خصوصا وشعروا أن استعادة العلاقات الدبلوماسية هي ورقتهم الرابحة، لذلك بدا الأمر وكأنهم لا يريدون النزوح عن موقفهم. لكن هذا التغيير المفاجئ موضوع ترحيب كبير”.
وترى اسفندياري أن الاتفاق بين الرياض وطهران “نوعا ما يمهد الطريق للقوتين في المنطقة لبدء تحديد وحل خلافاتهما”.
الناطق باسم مجلس الأمن القومي في البيت الأبيض، جون كيربي قال من جانبه “نحن نرحب” بالاتفاق الدبلوماسي مضيفا أنه ينبغي رؤية “ما إذا كانت إيران ستفي بالتزاماتها”.
الاقتصاد على حافة الهاوية
يتابع العالم بقلق التطورات في الأسواق المالية خشية تكرار أزمة سنة 2008 أو ما هو أسوأ وذلك بعد إعلان واشنطن عن إفلاس بنك سيليكون فالي ومؤسسة مالية ثانية هي سيغنِتشر بنك.
أغلقت السلطات الأمريكية بنك سيليكون فالي، يوم الجمعة 10 مارس 2023، ووضعته تحت سلطة وكالة تأمين الودائع الفيدرالية، وهي خطوة أثارت مخاوف داخل الولايات المتحدة وخارجها من امتداد أثر الأزمة إلى الاقتصاديات ككل، وليس البنك فقط أو قطاع بعينه.
والمصرف، المتخصص في تمويل الشركات الناشئة، كان البنك الأمريكي الـ16 من حيث حجم الأصول، التي بلغت نحو 206 مليار دولار.
وبات الآن أكبر مصرف يتعرض للانهيار منذ الأزمة المالية العالمية في عام 2008، مما أثار مخاوف من حدوث أزمة مصرفية في جميع أنحاء العالم.
في محاولة للتهدئة ومنع زبناء البنوك من سحب ودائعهم بشكل جماعي وحماية مركز الدولار في السوق الدولية تعهد الرئيس جو بايدن بمحاسبة الأشخاص المسؤولين عن إفلاس بنك سيليكون فالي ومؤسسة سيغنِتشر بنك، ساعيا في الوقت نفسه لطمأنة الأمريكيين إلى أن ودائعهم بأمان.
وذكر بايدن في بيان “أنا ملتزم بشدة محاسبة المسؤولين عن هذه الفوضى ومواصلة جهودنا لتعزيز الرقابة والتنظيم للبنوك الكبرى حتى لا نجد أنفسنا في هذا الموقف مرة أخرى”.
وأضاف الرئيس في تصريحات نشرها أيضا على موقع تويتر “يمكن للشعب الأمريكي والشركات الأمريكية أن يثقوا في أن ودائعهم المصرفية ستكون موجودة عندما يحتاجون إليها”.
وزيرة الخزانة الأمريكية جانيت يلين أكدت يوم الأحد 12 مارس 2023 أن الحكومة تريد تجنب تأثير إفلاس بنك سيليكون فالي “إس في بي” على بقية النظام المصرفي. وقد استبعدت واشنطن إنقاذ المؤسسة عبر ضخ أموال عامة فيها، لكنها أكدت في المقابل أنها ستحمي كل ودائعها بحسب الفرنسية.
وأعلنت السلطات المالية الأمريكية خطة إنقاذ ستضمن أن يتمكن جميع المودعين في بنك سيليكون فالي من استرداد أموالهم “بالكامل”.
وجاء في بيان مشترك صادر عن وزارة الخزانة الأمريكية والمؤسسة الفدرالية للتأمين على الودائع والاحتياطي الفدرالي الأمريكي “سيتمكن المودعون من الوصول إلى كل أموالهم اعتبارا من يوم الاثنين 13 مارس”.
وقالت يلين خلال مقابلة مع شبكة “سي بي إس” الأمريكية “نريد أن نتأكد من أن مشكلات أحد البنوك لا تسبب عدوى لبنوك أخرى قوية”.
وعقد مسؤولون في وزارة الخزانة والاحتياطي الفدرالي ووكالة تأمين الودائع الفدرالية اجتماعا طارئا بهدف إيجاد حل قبل فتح الأسواق المالية الآسيوية.
من أبرز المصارف المتضررة بنك فيرست ريبابلك الذي انخفضت أسهمه بنسبة 30 في المئة تقريبا في جلستي الخميس والجمعة، وسيغنتشر بنك الذي فقدت أسهمه ثلث قيمتها منذ مساء الأربعاء.
عدد كبير من زبائن البنكين شركات غالبا ما تتجاوز ودائعها الحد الأقصى للمبلغ الذي تضمنه مؤسسة التأمين الفدرالية، وهو 250 ألف دولار لكل مودع، ما قد يؤدي بها إلى سحب أموالها.
وأوضحت يلين الأحد أن الحكومة عملت في نهاية الأسبوع مع وكالة تأمين الودائع لإيجاد “حلّ” لبنك سيليكون فالي الذي لا يغطي التأمين نحو 96 في المئة من ودائعه.
وقالت وزيرة الخزانة “أنا متأكدة من أن وكالة تأمين الودائع تدرس مجموعة واسعة من الحلول، بما في ذلك الاستحواذ” من بنك آخر.
لكنها استبعدت إنقاذ بنك سيليكون فالي عن طريق ضخ أموال عامة.
اموال تبخرت
يلين جددت في مقابلة على شبكة “سي بي سي”، التأكيد على أن النظام المصرفي الأمريكي آمن، وبه رأسمال جيد ومرن. وردا على سؤال عما إذا كان سيتم تقديم حلول قبل موعد فتح الأسواق في آسيا يوم الاثنين، قالت إن المسؤولين “يعملون على حل الأزمة في وقت مناسب”.
ونقلت وكالة “بلومبيرغ” للأنباء عن يلين قولها، “أثناء الأزمة المالية، تم إنقاذ مستثمرين ومالكين لبنوك كبيرة، نحن نشعر بالقلق إزاء المودعين ونركز على محاولة تلبية احتياجاتهم”.
وأضافت، “أريد أن أقول ببساطة إننا مدركون للمشكلات التي سيواجهها المودعون… عديد منهم شركات صغيرة توظف مواطنين في مختلف أنحاء البلاد، وبالطبع هذا مصدر قلق كبير، ونحن نعمل مع الجهات التنظيمية لمحاولة علاج هذه المخاوف”.
ويتزايد القلق لدى بعض المسؤولين التنفيذيين والمستثمرين في القطاع المالي من أن يكون لانهيار بنك وادي السيليكون “إس.في.بي” تأثير الدومينو في البنوك الأخرى في الولايات المتحدة ما لم تجد الجهات التنظيمية مشتريا مطلع هذا الأسبوع لحماية الودائع غير المؤمنة.
وأفاد بعض المسؤولين التنفيذيين في القطاع إن حجم مثل ذلك الاتفاق سيكون ضخما بالنسبة لأي بنك، ومن المرجح أن يتطلب من الجهات التنظيمية تقديم ضمانات خاصة وتسهيلات أخرى لأي مشتر.
وأضافوا، أن البنك الذي مقره سانتا كلارا في ولاية كاليفورنيا، يحتل المركز الـ16 بين أكبر البنوك الأمريكية بأصول قيمتها 209 مليارات دولار، وهو ما يجعل قائمة المشترين المحتملين الذين يمكنهم تنفيذ صفقة خلال مطلع الأسبوع قصيرة نسبيا. وذكرت “بلومبيرغ” أن مجلس الاحتياطي الاتحادي “المركزي الأمريكي” والمؤسسة الاتحادية للتأمين على الودائع يدرسان إنشاء صندوق يتيح للجهات التنظيمية دعم الودائع في البنوك التي تواجه تعثرات.
وتجري الجهات التنظيمية مناقشات بشأن الأداة الخاصة الجديدة مع مسؤولين في البنوك، أملا في أن يطمئن مثل ذلك الإجراء المودعين، ويساعد على احتواء أي ذعر.
لكن لم يتضح إن كانت الجهات التنظيمية ستحظى بالدعم السياسي، لإنقاذ البنك الذي أسس ليقدم خدماته للشركات الناشئة والمستثمرين في وادي السيليكون.
عمر نجيب
Omar_Najib2003@yahoo.fr