2024 مارس 6 - تم تعديله في [التاريخ]

الصحافة الإلكترونية: تحديات أخلاقية ورؤى مستقبلية في عصر الروبوت

تطور الصحافة الإلكترونية من محاولات فاشلة إلى إعادة الاكتشاف وإكراهات احترام أخلاقيات المهنة الصحفية


العلم الإلكترونية - هشام الدرايدي 

أضحت الصحافة الإلكترونية اليوم، تهيمن على كل الأخبار المتداولة، لامتيازها بخصوصيتي السرعة والآنية في تناول معطيات الخبر ومعالجته ونشره، إلا أنها ومع ذلك لازالت أسيرة الوقوع في المحظور، خصوصا خلال تقصيها لوقائع الأحداث، وتناولها من مختلف الزوايا التي تقتضيها أخلاقيات المهنة، فالإسراع بإنتاج الأخبار العاجلة ونشرها في سباق مع الزمن، ما يضطر الصحفي للوقوع في المحظور، والانسياق مع بعض الشائعات أو الأخبار المزيفة التي توحي في الوهلة الأولى للمتعامل معها على أنها حقيقية حتى يتبين العكس. 
 
وفي حالات أخرى، نجحت هذه الصحافة من خلال أخبارها المتداولة على مدار الساعة، في الدفع بعدد من المؤسسات إلى تلافي مخاطر وأزمات داخلية أو خارجية، وتغيير خريطة الحقائق، من خلال تناولها عدد من القضايا كان لها السبق فيها، أو كشف مستور وغيرها من المواضيع التي جعلت منها عمودا من أعمدة الصحافة في العالم بشكل عام وفي المغرب إلى حد ما بشكل خاص. 
 
وإن كانت للصحافة الإلكترونية مواقف قوية في بعض القضايا الشائكة، التي لعبت فيها دورا محوريا في فك بعض خيوطها أو جلها، إلا أن بعضها (أي الصحف الإلكترونية) أصيبت بعلة عدم الحياد، أو الابتعاد عن الكتابة بشكل مهني يتوافق وأخلاقيات المهنة، كما كان الحال في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين مع الصحافة المكتوبة، التي أثرت عليها الصحافة الصفراء، أو ما اصطلح عليها بصحافة "البنس"، فبعد انتشار المطابع بشكل كبير في يد التجار والملاك، حادت الصحافة المكتوبة التي كانت تؤثث للعالم طريقه من خلال مقالات أكاديمية وبحثية يعكف على كتابتها أدباء ومفكرون ومتخصصون، وكانت قيمة الصحيفة آنذاك تساوي عشرات أضعاف قيمة الكتاب، ولا يقتنيها إلا المثقفون من الأرستقراطيون والساسة وغيرهم من ذوي المال والنفوذ...، فانكب المستثمرون على هذا الميدان باقتناء المطابع وتحريك عجلاتها من خلال إصدار صحف يومية تتناول أخبار مفبركة وشائعات، وفضائح مشاهير السياسة والفن وأباطرة الجريمة والمخدرات، لتمكين العامة من هذه الأخبار المثيرة، عبر صفحات صحفها بقيمة بنس واحد، منتشرة على الأرصفة وفي الأكشاك، محققة مبيعات مهولة، دون الحاجة إلى أداء تكاليف باهظة للخبراء والأكاديميين من أجل كتابة مواضيع تهم السياسات الاقتصادية والثقافية والفكرية والاجتماعية، وحتى العلمية منها والعسكرية وغيرها من المواضيع والتخصصات التي كانت تثقل كاهل الصحيفة، وتحدد بوصلة مستقبل الدول من خلالها وتسهم في تنميتها والتأثير على علاقاتها. 
 
إلا أن هذا "الفيروس" الذي أصاب الكيان الصحفي التقليدي، وانتشر في جسمه نهاية القرن قبل الماضي، ما فتئ أن عولج بمصل الأدباء والمفكرين، الذين أعادوا توجيه بوصلة الصحافة المكتوبة إلى سكتها الصحيحة، وتكاتف معهم رجال الساسة وأصحاب السلطة والقرار، والسلطات القضائية، من خلال تشريع وسن قوانين منظمة للمهنة، فانبعثت الصحافة المهنية من رمادها مجدد، وأثمرت من خلال كتابات لازال الباحثون يعودون إليها كأرشيف أكاديمي رصين في مواضيعهم البحثية. ولم يكن القطر العربي بمعزل عن هذه الثورة الجديدة في الصحافة المكتوبة الرصينة، حيث وجد المناضلون والوطنيون الباحثين عن الحرية والانعتاق من قيد الاحتلال الأجنبي، ضالتهم في الصحافة، وعبروا من خلال صفحاتها عن آرائهم ومواقفهم الراسخة، فارتجت لكتاباتهم أركان الاستعمار، وتهدمت أطماعه في البقاء جاتما على صدور الشعوب المحتلة، ويمكن هنا استحضار ما قامت به جريدة "العلم" كأنموذج حي، أسسها وطنيو حزب الاستقلال في المغرب سنة 1946، بقيادة زعيمهم علال الفاسي، أحد كبار مفكري وكتاب الوطن العربي، الذي جعل منها منبرا مناديا للحرية والاستقلال، وأرض مهد للمهنية و طريقا معبدا للصحافة في المغرب. 
 
وبعودتنا للزمن الراهن، يمكننا أن نلاحظ بشكل جلي، أن التاريخ يحاول إعادة نفسه من بوابة الصحافة الإلكترونية، التي أصبحت صفحاتها متاحة للعموم بالمجان، دون اشتراك أو أداء مسبق، فظهرت معها صحافة "البوز"، وهي توأم شبيه لسابقتها صحافة "البنس"، إلا أن الهيئات المنظمة لقطاع الصحافة في العالم على وجه العموم وفي المغرب بالأخص، أطلقت سيقان خيول خبرائها لمحاولة استخلاص "مصل" قانوني عله يقضي على هذا "الفيروس المتحور"، ويؤمن للصحافة مستقبلا جديدا يتسم بالمهنية واحترام أخلاق المهنة، ومواكبة كل التطورات التي يعرفها العالم في التكنولوجيا، وتسخيرها كرسالة نبيلة وهادفة التي نشأت من أجلها الصحافة. 
 
وبخصوص تاريخ ظهور الصحافة الإلكترونية، فليس كما يعتقد البعض مع بداية الألفية الثالث، وإنما كان ظهورها الأول في سبعينات القرن الماضي، حيث يرى بعض الباحثين أن ظهورها كان مع ظهور خدمة (التلتكست) عام 1976، كتعاون بين مؤسستي "انديبندنت برودكاستينغ" و"بي بي سي" البريطانيتين. كما شهد عام 1979 ولادة خدمة (الفيديوتكست) الأكثر تفاعلية مع نظام "بريستيل" على يد السلطات البريطانية للاتصالات. وبناءً على النجاح الذي أحرزته هذه المؤسسات في توفير خدمة النصوص التفاعلية للمستفيدين، دخلت بعض المؤسسات الصحفية الأمريكية منتصف الثمانينات على هذا الخط. وبذلك بدأ العمل على توفير النصوص الصحفية بشكل إلكتروني إلى المستفيدين عبر الاتصال الفوري المباشر.
 
وفشلت محاولات تطوير مشاريع مؤسسات إعلامية في تلك الفترة، وتكبدت خسائر مالية تقدر بحوالي 200 مليون دولار أمريكي، مما أدى إلى توقف هذه المشاريع. حيث أرجع الخبراء سبب فشل هذه الصحف الإلكترونية في بدايتها إلى عدم توفر الأرضية الخصبة للتكنولوجيا المتطورة بما يكفي لجعل الوصول إلى المحتوى الإلكتروني متاحًا بشكل ميسر وبتكلفة مناسبة، بالإضافة إلى قلة الاهتمام بالخدمات الإعلامية الرقمية من قبل المعلنين والمستفيدين على حد سواء.
 
ومع بداية التسعينيات، شهدت تقنيات النشر الإلكتروني تطورًا كبيرًا، وزادت حاجة المستفيدين إلى الخدمات الإلكترونية. وكانت صحيفة "هيلزنبرغ إجبلاد" السويدية أول صحيفة تنشر بالكامل على الإنترنت، وتلتها صحيفة "الواشنطن بوست" الأمريكية في عام 1994 بنشرها نشرة يتم تحديثها فوريا مع تغير الأحداث، مع وجود مراجع وثائقية وتاريخية وإعلانات. وقد أطلق على هذا النوع من النشر مصطلح الحبر الرقمي.
 
وفي نهاية التسعينات من القرن الماضي، سخّرت العديد من الصحف في العالم إمكانيات كبيرة لإنشاء مواقع على الإنترنت بسبب تكلفتها المنخفضة وسهولة الوصول إليها، بهدف توسيع آفاق التوزيع والانتشار. ولكن سرعان ما اكتشف مسؤولو هذه الصحف أن النسخة الإلكترونية المشابهة للنسخة الورقية لم تعد تلبي احتياجات القراء، مما دفعهم لإنشاء إدارات خاصة بمواقعها الإلكترونية، من أجل تحرير جريدة منفصلة عن النسخة الورقية. وأصبحت الصحف الإلكترونية منافسة للصحف المطبوعة، وظهرت مواقع إخبارية إلكترونية تتخذ مظهر صحيفة متكاملة من حيث المحتوى والمسمى، وأصبحت تسمى بالصحف الإلكترونية المحضة.
 
إلا أن هذه المحاولات لم تلق النجاح المطلوب، وتكبدت خسائر مالية قدرت حينها ب 200 مليون دولار أمريكي. لذلك توقفت مشاريع هذه المؤسسات الصحفية، ويرجع المختصون البداية غير الموفقة للصحيفة الإلكترونية، إلى عدم توفر تقنيات متطورة بما فيه الكفاية لتسمح بوصول غير مكلف وسهل إلى المحتوى الإلكتروني، زيادة على نقص الاهتمام بهذا النوع من الخدمات الإعلامية من قبل المعلنين والمستفيدين على حد سواء. لكن مع بداية التسعينات تطورت تقنيات النشر الإلكتروني، إضافة إلى حاجة المستفيدين إلى الخدمات الإلكترونية. ولقد ارتبط نجاح خدمة التلتكست باعتمادها على جهاز التلفزيون، أما نجاح الصحيفة الإلكترونية في انطلاقتها الثانية مرتبط بتوفر جهاز الحاسب الآلي وتطوره.
 
وتعد صحيفة (هيلزنبرغ إجبلاد) السويدية أول صحيفة تنشر بالكامل على الإنترنت، وتلتها صحيفة (الواشنطن بوست) الأمريكية سنة 1994 التي قامت بإعداد نشرة يعاد تحديثها فوريًّا في كل مرة تتغير فيها الأحداث، مع وجود مراجع وثائقية و تاريخية وإعلانات. وقد أطلق على هذا النوع من النشر في بدايته الأولى مصطلح الحبر الرقمي.
 
ومن ثم، وقبل نهاية التسعينيات، كانت هناك عشرات الصحف في العالم وخصوصًا الكبرى منها قد سخرت إمكانيات معتبرة لتنشئ مواقع على شبكة الإنترنت نظرًا لقلة التكلفة والسهولة، رامية بذلك المسعى إلى توسيع آفاق التوزيع والانتشار، لتتجاوز التقييدات المالية والنقل وبصفة خاصة قيود الرقابة.
 
إلا أنه سرعان ما اكتشف مسيرو هذه الصحف أن النسخة الإلكترونية المشابهة للطبعة الورقية لم تعد تلبي احتياجات القراء، إذ إن المستخدم يبحث عن الجديد بعيدًا عن الطبعة الورقية على الانترنت. وهكذا، بدأت الصحف بإنشاء إدارات تحري خاصة بمواقعها الإلكترونية تتولى تحرير جريدة منفصلة عن النسخة الورقية. ومن ثم، أصبحت الصحف الإلكترونية منافسة للصحف المطبوعة، كما أن الأهمية المتزايدة للصحافة الالكترونية أدى إلى ظهور اتجاه آخر من هذه الصحف يتمثل في ظهور مواقع إخبارية إلكترونية، تتخذ مظهر صحيفة متكاملة من حيث المضمون والمسمى. ولكن تخضع للنمط الإلكتروني وهي صحف إلكترونية محضة، لا علاقة لها بأي صحيفة ورقية، إذ نشأت في بيئة الإنترنت وحققت نجاحًا كبيرًا، حتى إن نجاحها شجع بعضها على الخوض في عالم النشر التقليدي الورقي، وهذا ما أصبح يعرف بعبارة (الهجرة المعاكسة).
 

نشأة الصحف الإلكترونية وتطورها في العالم

تعددت الآراء حول بداية ظهور الصحافة الإلكترونية، إلا أن أول نشأة فعلية لها، بتحديد مكانها وزمانها، استعصى على الباحثين في هذا الميدان، ولكنهم اتفقوا على أن تطور الإنترنت كمصدر للمعلومات دفع وسائل الإعلام إلى استغلال هذه الفرصة بشكل يعتبر شبه جماعي، ولم تنفرد صحيفة عن البقية لمدة طويلة في هذا المجال الذي اصطلح عليه بالصحيفة الإلكترونية.
 
وحسب الباحث الأمريكي "مارك ديويز" الذي تخصص في أبحاثه الأكاديمية في الصحافة الإلكترونية، فإن أول صحيفة في الولايات المتحدة أطلقت نسختها الإلكترونية على الإنترنت كانت "شيكاغو تريبيون" في عام 1992، تلاها ظهور المواقع الإخبارية والصحفية على الإنترنت. وقد تفاعلت الصحافة الإلكترونية مع أحداث كبيرة كحرب الخليج الأولى عام 1991 والهجمات الإرهابية في 11 شتنبر 2001، حيث نقلت الأحداث بدقة وكفاءة عالية، و بأخبار محينة على مدار الساعة.
 
ثم بدأت الصحافة الإلكترونية تظهر بشكل متزايد، سواء كجزء من صحف وشبكات تلفزيونية معروفة مثل "بي بي سي" البريطانية و"سي ان ان" الأمريكية، والجزيرة القطرية الناطقة بالعربية ثم بالإنجليزية، أو كصحف إلكترونية مستقلة، وكانت هذه الصحف في البداية تقدم محتوى مجاني ولم تكن لها عائدات كبيرة، ولكن مع تزايد استخدام الإنترنت وزيادة أعداد القراء، بدأت الإعلانات الرقمية تجذب اهتمام المعلنين والمستشهرين، لتصبح مصدرا هاما للإيرادات.
 
وتطورت الصحافة الإلكترونية من مجرد مواقع تحتوي على مقالات وأفكار بسيطة إلى مواقع تقدم محتوى متنوع وتعتبر مصدرا رئيسيا للأخبار والمعلومات للعديد من الأشخاص. ويعود الفضل في نجاحها كما أسلفنا الذكر في بداية مقالنا، إلى سهولة الوصول إليها وتفاعلها مع احتياجات القراء وتغطيتها الشاملة للأحداث.
 

عوامل أسهمت في ظهور و تطور الصحافة الإلكترونية

وكشف الباحثون أن هناك ثلاثة عوامل رئيسية أسهمت في ظهور وتطور الصحافة الإلكترونية:
 
1. التطور التكنولوجي: شهدت قدرات الإعلام الآلي وطاقات الكمبيوتر قفزة هائلة في القدرة على تخزين ومعالجة المعطيات، مما جعل من الممكن نشر المعلومات بشكل أسرع وأكثر فعالية.
 
2. ترقيم المعلومات: في ظل التطور التكنولوجي، تقدمت تقنيات وعمليات ترقيم المعلومات، مما جعل كل معلومة مشفرة بشكل رقمي، مما أتاح نقل وتبادل المعلومات بسهولة وفعالية عبر العالم دون مشاكل اللغة.
 
3. ضغط المعلومات: مع تطورت تقنيات وتطبيقات ضغط المعلومات وإزالة ضغطها، تمكن الصحافيون من إرسال المعلومات بسهولة عبر الإنترنت دون الحاجة إلى تخصيص مساحات كبيرة، وشمل هذا ملفات مكتوبة وسمعية وبصرية، حتى باتت كل أحداث العالم في راحة اليد خلال بضع ثوان. 



في نفس الركن