2020 نونبر 5 - تم تعديله في [التاريخ]

الشِّعْر إلى إشْعارٍ آخَرْ! بقلم // محمد بشكار

الشِّعر كان بخير حين كُنا نرْبط العلاقات وطيداً ونشيداً مع ما نقرأ وليس الأشخاص، حين كانت وسائل التواصل المعدنية أضْيق من خرم إبرة وليس أنترنيتاً يُسوِّق بقوة الدَّفع الأدب وحتى قلة الأدب المُسْتنفر برداءته للدَّمع، حين كُنا لا نستضيف مُدراء بعض المهرجانات في مآدب نَعْقِد موائدها الدّسِمة في بيوتنا، لا لشيء إلا ليحظى النَّكرة من مدير مهرجان في جزُر الوقْواق، بدعوة تمكِّنه من التغريد بشِعْره الكسيح والمعاق من ماله الخاص في أحد أصقاع العالم، حين كان كل هذا.. وغير هذا ممَّا لم أذكره خشية أن تسقُط النُّقْطة في الأنفس المعنية، كان الشِّعر بخير!


 

 

لا أحبُّ أن أقرْفِص واضعاً الأوراق القديمة أمامي، لأنها قد تنْتصِب حجرة عثرة تعُوق السَّير الطبيعي لجريان النهر نحو مصبِّه الخالد في المستقبل، ولكن فضول يدي يسبقني أحياناً بالأصابع لأرشيفي الخاص، فأضِيع بين قُصاصات الجرائد التي اقتصَّتْ من عمري  السنوات دون أن تصل للأجنحة، أضيع في الشهادات ويشْهَد الله أني لم أشهرها ليس فقط تواضعاً ولكن لإيماني أن الشِّعر أقوى من الورق المُقوَّى، أضيع في الكاتالوغات التي تحمل صوري واسمي غير الكامل لأن بقيته ضائعة في نص شعري قادمٍ يساورني، أضيع في الكلمة التي أطارد حُبَّها بينما تنْصِبُ لي على يد من يُشوِّهها المكائد، أضِيع في أرشيفي الخاص بين صوري التي طافت العالم في هجرة غير سرية لتلبِّي غوايات الإبداع السرية التي تفضحها القصيدة، ولكنني حين وصلتُ إلى البوسنة (مثلا لا حصرا للجغرافيا)، لم أملك إلا أن أعترف بصدمة الخرافة وليس صدمة الحضارة، فقد وجدتُ هناك  "مكي الصخيرات" يعالج البلقانيين من الرياح، سبقني المكي وما أكثر أمثاله من الشعراء الذين يتقنون خاويةً في عامرةٍ دون سِحْر مُقْنِع، وأَعْلَنَ أمام كاميرات العالم انتصار الشعوذة على الشِّعر الذي لا يخلو أيضاً من أشباح ! 

 

الشِّعر كان بخير حين كان لا يُقدَّرُ بثمن ولا يطلب الناشر نَظير طبع ديوانٍ بَاهِظَ الثمن!
 

الشِّعْر كان بخير حين كنا لا نجد ثمن طابع بريدي لنرسل قصيدة لمجلة في أقاصي الدنيا أو لأقرب عنوان حيث تقْبع جريدة، فكنا نبحث عن طوابع بريدية مُستعملة نمحو خواتمها السوداء حذرين من خدْش الصورة، ولا نتأكد من وصول رسائلنا غير الموثوق في سلامتها البريدية، إلا حين تنشر مجلة في مصر أو بيروت إحدى قصائدنا على بعد صفحتين من شاعر كبير، كنا نرقص فرحاً مع كل الذئاب كما لو وصلت بعد الرسالة إشارة للمجنون من رمش ليلى، فشكراً لتعاطف ساعي البريد مع محْنتنا التي اضطرَّت جيوبنا الفارغة لخرْق القانون !
 

الشِّعر كان بخير حين كانت حماسة القصيدة تسْتبدل عروقنا بأوتار من نار، نردِّد النشيد القادم من فلسطين ونرافق بأرواحنا روح الشهيد إلى السماء، كان ذلك قبل أن تختلط الطُّيور في أقفاصها وتتَّفق على مشْية الغراب، كانت القصيدة أرضاً أخرى ولكنها لا تعوِّض المُغْتصَبة، نمشي بِرِجْلٍ على أديمها  جنْباً إلى جنْب الفلسطيني في ساحة المعركة، وبالرِّجْل الأخرى نمشي في السحاب!
 

الشِّعْر كان بخير قبل أنْ يسْتعجِل البعضُ القصيدة لينشرها وهي ما زالت في الرحم لم تُكتب، فالسرعة تكمن في التجاوز ولو بدا في الظاهر بطيئاً بسبب حتمية اكتساب أكثر من شكل جمالي للقول الشعري، السرعة ليست في التكرار الذي يستنسخ الكلمات في جمل بليدة دون اختلاف، المهم أن نصل للدهشة التي في أعين الطفل ولو قطعنا المسافة بين نص شعري وآخر بجرَّار!
 

الشِّعْر كان بخير قبل أن يكتبه الآن الطامعون في العالمية على مقاس لغات أجنبية فاقدين بالذوبان في الآخر الجذور، وعِوض أن يشتغلوا على اللغة الأم شعرياً ويبْتكروا حداثتها، كتبوا جُملا إنشائية أحادية المعنى لتكون مُتاحة من حيث الترجمة حتى لآلة غوغل، ما عساي أقول لهؤلاء سوى إنَّكم تأتون مُهَرْوِلين إلى الشِّعْر ولكن بكعْبٍ قصير فلا يأتيكم !
 

الشِّعر كان بخير حين كان الواقع  يتنكَّر لأحلامنا الصغيرة التي تكبر رُغْماً عن كل السقوف الوطيئة، كنا نبحث عن كتاب لأحد الأسماء الأدبية نتَّقي بِحُبِّه أن يصيب العالمَ شرٌّ من كراهيتنا، أما اليوم وبعد أن انقرض البشر الذي يغترف الحب من معين الكتب، كثُر المُتطرِّفون الذين يحملون أفكار الرعب ليقُضُّوا المضاجع، ولا غرابة أن الخائف الذي يَنْدسُّ بين ظهرانينا هو الذي يخرج على الناس مُتمنطقاً بحزام ناسف، كان الكتاب وسيلتنا للاختفاء عن الأنظار بينما ثمة من كان وما زال ينتهز فرصة عزلتنا خلف الصفحات، ليصعد المنابر خاطباً وُدَّ الجماهير وأصواتهم ليس للغناء، ولكن ليعطوه من فراغٍ السُّلطة التي تُطوِّق حريتنا بالأسوار!

 

.....................................

افتتاحية ملحق "العلم الثقافي" ليوم الخميس 15 أكتوبر 2020.

 



في نفس الركن