قبل الخوض في عناصر الجواب، لابد من التذكير بأن الإطار الذي ينظم التعديل الحكومي واضح و صريح، حيث يمكن أن يتم التعديل بمبادرة من جلالة الملك رئيس الدولة، أو يتم بعد موافقة جلالة الملك على اقتراح في هذا الشأن من رئيس الحكومة. وفي الحالتين معا، لدينا في الفصلين 42 و47 من الدستور، ضمانات حسن سير عمل المؤسسات والانضباط لأولوية المصلحة الوطنية قبل أي اعتبار آخر. وبالتالي، لا مكان لتناول الموضوع بمنطق المزايدات السياسوية والإفراط في التنجيم وشخصنة الأمور.
بشكل عام، هنالك اعتبارات عديدة تفرض تعديلا وزاريا، منها ضرورة تصحيح "الكاستينغ" الأول بتغيير بعض الأسماء، و تعيين كتاب الدولة أو الوزراء المنتدبين، لدعم العمل في حقائب وزارية كبرى. كما يمكن للتعديل أن يكون فرصة لإعادة النظر في هيكلة بعض القطاعات من أجل خلق شروط الفعالية والنجاعة و تسهيل الالتقائية في الاستراتيجيات والبرامج، خاصة في محاور التنمية الاجتماعية و الإدماج، و الاقتصاد الاجتماعي و التشغيل، و دعم مشاريع مقاولات الشباب. و يمكن بالمناسبة، تسريع تجميع و عصرنة بعض المؤسسات العمومية و تغيير مناهج التدخل و الاستهداف بما يوحد الجهود و يرشد استعمال الموارد المشتتة بين عدة قطاعات، مع إدماج حقيقي للبعد المجالي و استحضار اختصاصات مجالس الجهات و الجماعات الترابية.
كما أن التعديل الوزاري أصبح مطلوبا من أجل ارتقاء عمل كل مكونات الحكومة إلى مستوى ما يتطلبه الخط الاستراتيجي الذي حدده خطاب العرش و أكد على ضرورة دعم القدرة الشرائية للمواطنين، و تقوية آليات ضبط المضاربات و الاحتكار، و منع تفاقم الغلاء الفاحش في الأسعار، و القطع مع الممارسات الفاسدة التي تشكلها البيروقراطية و بعض المصالح الخاصة التي تعيق جهود الاستثمار و المبادرات النافعة للاقتصاد الوطني. و لعل الخطاب الملكي في افتتاح الدورة البرلمانية الحالية، قد زاد تأكيد الإرادة الملكية في تأهيل شامل للتدبير العمومي في كل المجالات، و بصفة استعجالية في مواجهة التحديات التي تطرحها نذرة المياه، و ضرورة تشجيع الاستثمار و خلق فرص شغل للشباب.
و ليتحقق المراد، يتعين أن يتيح التعديل الحكومي دخول أسماء جديدة تجمع بين النضالية السياسية و القدرات التواصلية، و بين التجارب التدبيرية التي من شأنها أن تأتي بقيمة مضافة تزرع الروح في قطاعات لم تنطلق بها، طيلة السنة الأولى من عمر الحكومة، أية مبادرات تجسد الرؤية السياسية و الاستراتيجية المصرح بها في البرنامج الحكومي.
و الأهم، أيضا، هو أن يشكل التعديل فرصة لتجديد ثقة المواطنين في المسار الديمقراطي و الانتخابي الذي شاركوا فيه بأغلبية، لأنه من مصلحة البلاد أن تستمر إرادة المشاركة في المستقبل، على أساس الاقتناع بإمكانية العملية السياسية و الفعل الحزبي أن يعود لإفراز نخب تستطيع تدبير الشأن العام ببلادنا، بمنطق الدولة و خدمة لمصالح المواطنين.
من زاوية أخرى، التعديل الحكومي سيكون فيه إنصاف لجهود وزيرات و وزراء جسدوا ثقل المسؤولية، و انخرطوا في صياغة التدابير التي تمت لمواجهة الأزمة الاقتصادية و الاجتماعية، بناء على توجيهات عاهل البلاد، و بالتالي يجب أن يستمروا، بشرط إخراج أسماء أخرى تأكدت نسبية قدراتها على رفع التحديات التي تواجهها قطاعات دبرتها منذ سنة، و تحييد من لم يتمكنوا من نسج شراكة حقيقية مع الأطراف المعنية بالملفات التي يشرفون عليها، و من انخراطوا في سجالات إعلامية و صدامات غير مبررة مع فعاليات مجتمعية و مهنية، كانت دوما في قلب ديناميكية الأوراش الإصلاحية في بلادنا، بشكل مرحب به سواء كان ذلك على أساس مساندة الحكومات المتعاقبة أو من موقع المعارضة.
في هذا السياق، من المهم التنبيه إلى أن الثقة المولوية غالية، لذلك يحتاج الموقع الوزاري إلى القدرة على الانضباط للمصلحة العامة، و التواصل مع الناس و التفاعل مع انتظارات الرأي العام، و المبادرة إلى معالجة الملفات و المشاكل بنهج يدمج و لا يقصي أي طرف، و بانفتاح على ذكاء كفاءات كل أبناء الوطن في الداخل و في العالم، بشكل يساعد في بروز ثقافة جديدة تفكك ديناميكية التسفيه التواصلي الاوتوماتيكي لكل المبادرات العمومية، و يعزز الثقة بين المواطنين و المؤسسات ليسهل النقاش بشأن ما يحمله السياق الدولي من مخاطر، و ما يتحقق في بلادنا من تقدم في ملفات الحماية الاجتماعية و التعليم و الصحة، و في محور دعم المقاولات و خلق فرص شغل، و تمويل المشاريع الشبابية عبر برامج متنوعة، و دعم لأثمنة بعض المواد الغذائية و الطاقية قصد الحد من الغلاء الفاحش.
على العموم، التعديل الوزاري فرصة للحكومة لتجويد الأداء و خلق شروط بلوغ الأهداف المسطرة. لكن، سيظل النجاح رهين أمور جوهرية هي :
- تطوير استراتيجية التواصل السياسي لأعضاء الحكومة و للأحزاب المساندة لها.
- إعادة ترتيب الأولويات لتحقيق التوازن بين الحس الاجتماعي الضروري و بين الإمكانيات المتوفرة.
- تطوير الحكامة حتى يطمئن الناس إلى سمو القانون و قواعد الشفافية و المنافسة الحرة.
و في تنفيذ التوجيهات الملكية خارطة طريق استراتيجية للحكومة يجب السير على هديها، بنساء و رجال لهم القدرة على تعزيز مكتسبات الوطن أمام ضغط أزمة الاقتصاد العالمي المختل بسبب فوضى سوق الطاقة و انفجار التضخم على نطاق واسع.
فهل يأتي التعديل كما هو مأمول حتى تستمر سفينة الحكومة في الإبحار، و تنتصر الأولوية الوطنية و الحكمة على طموحات الأفراد التي لا حاجة لنا بها في هذا الظرف الدقيق جدا ؟ أم هنالك حاجة لتذكير الطبقة السياسية بأن التوجيهات الملكية هي النبراس الأول للأمل، وهي وحدها مبعث ثقة المغاربة في ذواتهم و في مؤسسات وطنهم و في الحاضر و المستقبل، و على الجميع تيسر الطريق لخدمة مصالح المجتمع و تقوية إمكانيات الدولة و هيبتها، عبر حفظ المكتسبات و تعزيز الجبهة الداخلية، لأن المغرب بثوابته الوطنية الراسخة، كبير على العابثين، و ليس للمتخاذلين مكان فيه؟
يونس التايب