2024 ماي 29 - تم تعديله في [التاريخ]

التسول المُعَولم…


العلم الإلكترونية - بقلم هشام الدرايدي

تعد ظاهرة التسول من أقدم الظواهر الاجتماعية التي لازمت المجتمعات البشرية منذ القدم، وقد برزت هذه الظاهرة منذ العصور القديمة واستمرت إلى يومنا هذا، متخذة أشكالا وأبعادا مختلفة تبعا للزمان والمكان.
 
في العصور القديمة، كانت المجتمعات البشرية تعتمد بشكل كبير على الزراعة والصيد، وكانت الفجوات الاقتصادية بين الأغنياء والفقراء واسعة. في ذلك الوقت، كان التسول يُعتبر وسيلة للبقاء على قيد الحياة لأولئك الذين لم يكن لديهم مصدر ثابت للرزق، ولا طاقة لهم أو سبيل إلى ذلك، بسبب إعاقة أو عجز جسدي أو ذهني. كانت هذه الفئة غير القادرة على العمل أو الإبداع تلتمس الرحمة من الفئات الأخرى، خاصة الغنية والميسورة، لتتجذر هذه الظاهرة في الإنسان وتصبح ملاذًا للعاطل عن العمل والكسول والمتخاذل، رغم امتلاكه كل المقومات الجسمانية والذهنية لممارسة عمل من الأعمال حتى الشاقة منها.
 
ومع العولمة التكنولوجية التي غزت كل بقاع العالم وكسرت الحواجز والحدود، تطورت ظاهرة التسول لتنتشر بين المجتمعات وتخترق ثقافاتهم وعاداتهم. انتقلت الظاهرة من التسول التقليدي إلى نظيره الرقمي، حيث أصبح تسول الجيمات واللايكات والمشاهدات ممارسة شائعة عبر وسائل التواصل الاجتماعي. في هذا العصر الرقمي، يتم عرض محتويات تفتقر إلى الأخلاق والقيم بهدف جمع الأموال من خلال الإعلانات والمشاهدات.
 
في المجتمع المغربي، وخلال العقد الأخير، وُلدت فئة جديدة من المتسولين المعولمين الذين لا هم لهم إلا حصد الملايين من المتابعات عبر نشر "الرذيلة والتفاهة"، إذ أن هذه الممارسات هدمت القيم والأخلاق التي نشأ عليها المجتمع المغربي، الذي كان مثالا للأمم عبر التاريخ في العلم والأدب والفكر والخلق، وأصبحت في ظل العصر الرقمي ممارسات عادية، بل وشجعت بعض الأسر أبناءها على ذلك، لما رأوا فيه من مورد مالي مهم.
 
لقد أصبح تسول اللايكات والمشاهدات مهنة وحرفة لمن لا مهنة له، وإن كان في السابق، لجأ بعض عينات المجتمعات إلى التسول التقليدي للاغتناء البطيء وبيع الوجه مقابل دراهم، فاليوم، بات هذا الطريق شاقا وصعبا على الجيل الجديد، الذي اختار بيع كل شيء يمتلكه أو في ملكية غيره من أسرته ومحيطه وثقافته ومعتقداته، مستغلا وجهه ودينه وقيمه وكرامته، لمنح فرجة شاملة لمتتبعيه وهم يشاهدون هذه الثوابت تتحطم أمام عدسة الكاميرا لتسول أكبر عدد من اللايكات والمشاهدات التي تملأ حساباته البنكية، ولعل أحقر ما حصل في عالم هذا التسول المعولم، هو عرض لحظات وفاة مسنة على مدى أربعة أيام وهي تحتضر حتى وافتها المنية، في انتهاك سافر لحقوق الإنسان و حرمات الموتى.
 
فأين ذهبت الأخلاق ومكارمها التي بعث رسولنا الكريم لإتمامها؟ وإلى أين نحن ماضون؟ وعلى أي مستقبل مقبلون؟

فأمير الشعراء، أحمد شوقي، كان محقًا حين قال: "إنما الأمم الأخلاق ما بقيت... فإن همُ ذهبت أخلاقهم ذهبوا."



في نفس الركن