2024 فبراير 4 - تم تعديله في [التاريخ]

إعــادة تـدمير الثقـة


العلم - بقلم عبد الله البقالي

اختار المنظمون للدورة الرابعة والخمسين لمنتدى دافوس الذي التأم بمدينة دافوس السويسرية ما بين 15 و 19 يناير الجاري شعارا مركزيا "إعادة بناء الثقة"، بمعنى أن جحافل من المسؤولين، يتقدمهم أكثر من 60 رئيس دولة وحكومة و أزيد من 1600 من رجال ونساء الأعمال وقادة الشركات العالمية الكبرى و 150 من المبتكرين العالميين ورواد التقنية وعشرات المئات من المفكرين وممثلي المجتمع المدني  سارعوا إلى اللقاء في إحدى  أكثر مناطق العالم برودة ليبحثوا رهان إعادة بناء الثقة .

هو إقرار بأن الثقة في العالم المعاصر دمرت بالكامل و أضحت الحاجة ملحة، ليس إلى ترميمها، بل إلى إعادة  بنائها من جديد على أسس و قواعد، من المفروض أن تكون مخالفة للأسس والقواعد التي كانت السبب المباشر فيما لحق العالم المعاصر من دمار شامل .

المفارقة المثيرة للانتباه، أن شعار "إعادة بناء الثقة" لم يجد من تجسيد في الأيام الخمسة من عمر المنتدى ما عدا في جلسات حوار، أطلق فيها العنان للتعبير عن وجهات النظر و الأفكار، بيد أن الاهتمام الأكبر انصب على نفس القضايا التي تطرح في جميع المنتديات والمؤتمرات واللقاءات العالمية، وهي إشكاليات تتعلق بالتغير المناخي وبالتأثيرات المحتملة للذكاء الاصطناعي والمخاوف من الأخبار المضللة وخطرها على الديموقراطيات في العالم و بالتضخم الذي نخر جسد الاقتصاديات العالمية الكبرى .

والواضح أن منتدى دافوس لم يتخلص من طبعته الأصلية حينما خرج إلى الوجود أول مرة سنة 1971 كفضاء أوروبي محض للحوار، و رغم ادعاء تغيير جلده سنة 1973 بانتقاله إلى العالمية بسبب تداعيات الأوضاع العالمية آنذاك، والتي تميزت بتبعات حرب البترول ، فإنه تمسك بعمق هويته التي تقتصر على ما هو غربي بصفة عامة. وإن كان الواقع يكشف أن التطورات المتسارعة التي يعيشها العالم والأحداث المؤثرة المتعاقبة تؤشر على أن فكرة المنتدى أصلا، أصبحت متجاوزة، وأنه لم يعد قادرا على استيعاب هذه التطورات و الأحداث، و يستدل الخبراء في هذا الصدد بأن الأزمة الصحية العالمية التي هزت أركان العالم، وكشفت عن حقائق ومعطيات مذهلة، كان في مقدمتها تآكل مفهوم العولمة والمواجهة المحتدمة بين الصين والولايات المتحدة الأمريكية والحرب الروسية الأوكرانية أكدت أن فكرة المنتدى اصبحت فعلا متجاوزة .

ويسعفنا هذا التحليل على وضع الشعار الذي اختاره منظمو منتدى دافوس لدورة هذه السنة، ليتضح أن مسألة صياغة الشعار شكلية بصفة مطلقة، و أن الانشغال الرئيسي في صياغته لا يتمثل في صياغة شعار يتلاءم مع الأوضاع السائدة في العالم و يستجيب للانتظارات الحقيقية، بل يتجسد أساسا في شعار يكون قابلا للتسويق الإعلامي .

فالرهان على "إعادة بناء الثقة" في عالم لا يزال مرتهنا بأزمات لا تنتهي، يستحيل أن يتحقق بالتركيز على ما لا يمكن أن يكون قادرا على إعادة البناء، بل إن هذه العملية تبقى رهينة شروط واضحة تستوجب امتلاك الشجاعة في طرحها .

فلا يكمن الحديث عن إعادة بناء الثقة بإقصاء أطراف معينة من الحضور استجابة لضغوط سياسية لجهة ما و لحسابات ترتبط بالجيو استراتيجية، وعلى العكس من ذلك، فإن إعادة بناء الثقة يجب أن تنطلق متحررة من الانحياز ومن الحسابات السياسية حتى لا يكون البناء معيبا، و ما أن يتم الانتهاء من وضع آخر آجورة حتى يتهاوى البناء من جديد.

ثم إن "إعادة بناء الثقة"  في عالم تآكلت مصداقيته بشكل كبير وخطير تفرض ممارسة نقد ذاتي موضوعي و صريح من القوى العالمية التي كانت سببا في تدمير هذه الثقة، لما يحقق العدالة والمساواة في الحقوق والواجبات بين جميع البشر في العالم. ولذلك من المخجل الحديث عن " إعادة بناء الثقة " في فنادق خمس نجوم في مدينة ثلجية، في نفس الوقت الذي تقترف فيه جرائم إبادة حقيقية ضد شعب أعزل، و تدمر فيه حياة بشرية بمختلف أسلحة الدمار الشامل بمباركة وتزكية ودعم مالي وعسكري و ديبلوماسي و إعلامي من نفس الدول التي يقال إنها تبحث في مكان آخر من خريطة العالم عن إعادة بناء الثقة. وكأن مفهوم "إعادة بناء الثقة" يتحدد في إطار جغرافي معين، بحيث لا يكون صالحا و قابلا للتنفيذ في منطقة جغرافية معينة ويكون غير ذلك في منطقة أخرى من العالم. بل إن نفس الوجوه و نفس الأسماء التي لا تذخر جهودا مالية وعسكرية وقانونية وتقنية في الإبقاء على سيادة حالة اللايقين وانعدام الثقة في كل ما يرتبط بالعالم المعاصر، هي نفسها الأسماء والوجوه التي التقت في دافوس لتبحث إعادة بناء الثقة  .

ويبقى منتدى دافوس في الأخير مجرد قرص من أقراص التخفيف من الآلام و فرصة للتمهيد للعقود بين الشركات، وقبل هذا وذاك فرصة مناسبة جدا لإعادة التقاط الصور التذكارية.



في نفس الركن