2021 دجنبر 24 - تم تعديله في [التاريخ]

إجبارية التلقيح والديموقراطية والسياسة وأشياء أخرى


العلم الإلكترونية - بقلم عبد الله البقالي
 
مؤشرات كثيرة ومتعددة ترجح استمرار انشغال المجتمع الدولي بالانتشار المتجدد لفيروس كورونا الذي استطاب المقام بين ظهراني البشرية.فمن جهة يواصل الفيروس الكشف عن قدرته الفائقة في التوالد والتناسل من خلال متغيرات ومتحورات جديدة وكثيرة بطفرات متعددة ومختلفة حيث تسبب خروجها إلى الوجود في هزات عنيفة في المجتمع الدولي بسبب الجهل الكامل بطبيعتها وسرعة انتشارها وقوة شراهتها . وفي كل مرة يحتاج العلماء والخبراء إلى متسع من الزمن لفهم كل متغير جديد مما يترتب عن ذلك من استمرار التداعيات السلبية على الانسان والاقتصاد على حد سواء .ونكاد نجزم في ضوء ذلك أن العلوم الحديثة المتطورة التي غاصت في جزئيات الكون عجزت لحد الآن عن توفير أجوبة علمية و نهائية عن هذا الوباء الخطير، واكتفت إلى اليوم بأجوبة ظرفية غير مقنعة بصفة مطلقة .

كما تواصل الانشغال العالمي بإصرار هذا الفيروس اللعين عبر ردود الفعل التي أبدتها مختلف حكومات العالم تجاه التطورات المرتبطة باستمرار الوباء في التجدد و إبداع المتغيرات الجديدة، حيث وأمام عجز العلوم والمختبرات عن القضاء النهائي على الفيروس، اضطرت حكومات الدول في العالم إلى الاحتماء في تدابير احترازية ، تحاول من خلالها محاصرة انتشار بقع الزيت في مساحات الشك و الريبة والقلق التي تسببت فيها تداعيات الجائحة إلى اليوم .

وفي ضوء كل ذلك كان، وسيبقى، من الطبيعي احتدام النقاش داخل الدول في مختلف أرجاء المعمور بين حكومات تعتبر نفسها مسؤولة على أمن وسلامة شعوبها ، ويقودها ذلك إلى اتخاذ إجراءات وتدابير حمائية متشددة، وبين فاعلين حقوقيين و سياسيين و شعبيين ، رافضين لما يعتبرونه ، تضييقا على حريات الاختيار و التنقل والتجول والحق في الولوج إلى جميع المرافق والفضاءات العمومية، دون أي شروط أو تقييد يحد من هذه الحريات والحقوق في دول كرست دساتيرها وتجاربها السياسية هذه الحريات والحقوق .

هذا الاحتدام في الخلاف و التجاذب وصل أوجه في كثير من الدول الأوربية التي انتقلت حكوماتها إلى مرحلة جد متقدمة في التدابير الاحترازية المتشددة بأن أعلنت في البداية إجبارية التلقيح، الذي لم يعد في هذه الدول مسألة اختيارية يحق للأشخاص ممارسة حقهم المشروع في الاختيار .

فالحكومات الغربية تبرر هذه الخطوة المتشددة بأنها لا تقبلأن تتسبب الأقلية من الأشخاص التي رفضت التطعيم ضد الوباء في تهديد سلامة وأمن الأغلبية من المواطنين الذين تلقوا الجرعات الكاملة من اللقاحات، وبالتالي تعتبر، من صلب الديموقراطية ، أن تمتثل الأقلية لقرارات الأغلبية، ومن حق المجتمع على هؤلاء أن يضمنوا حقوق الأغلبية .

وبغض النظر عن موقف منظمة الصحة العالمية التي اختارت الاحتماء في المنطقة الرمادية، فيما يتعلق بالموقف النهائي والواضح من إشكالية إجبارية التلقيح، بحيث اعتبرت بأن آخر الدواء هو الكي، بأن أوصت بعدم الالتجاء إلى الاجبارية، إلا بعد استنفاد جميع الجهود والمحاولات، فإن هناك دولا غربية وضعت أكثر من خطوة في مسار فرض هذه الإجبارية، بعدما تأكد أن دول القارة الأوروبية لاتزال بعيدة عن تحقيق المناعة الجماعية بعدما لم تتجاوز نسبة التلقيح في دول القارة العجوز 66 بالمائة من مجموع المستحقين للتلقيح . ففي دولة النمسا الذي كان مستشارها الأول معارضا للتلقيح، وأيامًا قليلة أصبح يؤكد أن " إجبارية التلقيح ضرورية مع كامل الأسف " وانتقلت حكومته إلى مرحلة متقدمة في التشدد بأن فرضت ذعيرة بقيمة 600 أورو ضد كل شخص غير ملقح أو مضت مدة ستة أشهر على آخر تلقيح تلقاه، وفي حال رفضه الامتثال فإن قيمة الذعيرة ترتفع إلى 3600 أورو.

وفي ألمانيا أكد المستشار الألماني أولف شول الذي خلف ميركيل، أن إجبارية التلقيح ستصبح نافذة بداية من شهر فبراير المقبل، وهو قرار يجد مشروعيته في امتناع نسبة مهمة من الألمان عن التلقيح ( تشير الإحصائيات إلى أن نسبة التلقيح في هذا البلد لم تتجاوز نسبة 69 بالمائة ) . وفي اليونان قررت السلطات العمومية هناك فرض غرامة إدارية على كل شخص يتجاوز سنه 60 سنة غير ملقح ، بقيمة 100 أورو عن كل يوم تخلف فيه عن التلقيح. وتبرر هذه السلطات هذا القرار بأن 9 من بين كل 10 أشخاص الذين يلقون حتفهم بسبب كوفيد هم من الأشخاص غير الملقحين الذين يتجاوز سنهم الستين سنة ، وأن نسبة التلقيح في هذا البلد لم تتجاوز 55 بالمائة، في حين وصل معدل الإصابة إلى أكثر من 20 ألف شخص كل يوم، ومجموع الوفيات 500 وفاة يوميا . أما في هولندا وبلجيكا فإن المعلومات تؤكد أن القرارات الإجبارية موجودة فوق مكتبي رئيسي الحكومتين في البلدين، وأن الإعلان عنها ينتظر خفوت الحركة الاحتجاجية الرافضة للتلقيح أصلا .

والأكيد أن احتدام الخلاف حول اتخاذ التدابير الاحترازية المتشددة بصفة عامة في القارة العجوز بالتحديد، لا يعود إلى مرجعية علمية ولا أخلاقية حتى، بل يطرح كإشكالية بحسابات سياسية صرفة بين الفاعلين السياسيين . ويبدو أن العالم المتخصص الذي سئل عن الموعدالمتحتمل لنهاية فيروس كوفيد وعودة الحياة البشرية إلى طبيعتها، رد بالقول إن هذا السؤال يجيب عنه السياسي و ليس العالم المتخصص. و باستطلاع أولي لمواقف المكونات السياسية في دول القارة الأوربية تتضح الحسابات السياسية. وأن مواقف الأحزاب السياسية الأوروبية تتخذ على أساس خلفيات سياسية صرفة. وهكذا نلاحظ أن أحزاب اليمين في ألمانيا وفي النمسا أعلنت معارضتها الشديدة والحاسمة لإجبارية التلقيح ، وقادت حركات احتجاج وتمرد ضد القرار، بيد أن أحزاب نفس اليمين في رومانيا واليونان وبولونيا ليست ضد هذه الإجبارية، بل أن الحزب اليميني المتطرف في رومانيا يدافع عنها بكل ما أوتي من قوة.وما قيل عن اليمين ينطبق تماما على أحزاب اليسار في دول القارة العجوز، بحيث إذا كانت مكونات اليسار في ألمانيا و في النمسا عارضت بقوة إجبارية التلقيح، فإن أحزاب اليسار في كل من اليونان و بولونيا و رومانيا لم تعلن معارضتها لهذه الإجبارية لحد اليوم، بيد أن مكونات الطبقة الحزبية في مجموع الدول الإسكندنافية وفي دول كإسبانيا والبرتغال تحاشت الغوص في هذا الوحل، ربما لأن القضية ليست مطروحة بنفس الحدة بالنظر إلى ارتفاع نسب تلقي اللقاحات في هذه الدول، والتي ناهزت في دولة السويد مثلا 90 بالمائة، وبالتالي تحققت فيما يقارب مناعة صحية .

هذه المعطيات وغيرها كثير تؤشر عن غياب النسق في المرجعية السياسية تجاه التعاطي مع قضية بطبيعة علمية صرفة، والافتقاد إلى البعد الإيديولوجي المنسجم مع إشكالية عمقها علمي وتقني صرف. وقد نغامر بالقول إن السياسة تفعل فعلها في مواجهة تحديات خطيرة جدا ترتبت عن أزمة صحية طارئة.
 



في نفس الركن