تابعت تغطية وسائل الإعلام الوطنية للقاءات التي جمعت، يوم الخميس، وزير التربية الوطنية والتعليم الأولي والرياضة، السيد شكيب بنموسى، بعدد من ممثلي النقابات التعليمية، ومجموعة تمثل التنسيقيات الوطنية للأساتذة. ورغم عدم اتضاح الصورة بالشكل الكامل، لمعرفة مدى تقدم الأطراف نحو حلول متوافق بشأنها، يبقى مجرد عقد اللقاءات أمر إيجابي، يؤكد وجود رغبة في الوصول إلى مخرج مشرف يطوي صفحة صراع طال أكثر من اللازم.
في نفس الموضوع، حلقة برنامج "مع الرمضاني" على القناة الثانية، التي بثت ليلة الأربعاء، حملت مضمونا مفيدا ومكنت من توضيح عدد من المعطيات المهمة. ولعل السبب في نجاح الحلقة هو أن ممثل وزارة التربية الوطنية والتعليم الأولي والرياضة كان موفقا في أسلوب تواصله، حيث تميز خطابه بالهدوء والمسؤولية، على عكس خرجة سابقة اعتبرت متشنجة من دون داعي. كما أن اللغة المستعملة ظلت إيجابية وظهر فيها تقدير كبير لأسرة التعليم وتنويه بعطاءات أبنائها، بشكل عزز الشعور باقتراب لحظة الوصول إلى لم الشمل، بعيدا عن لغة الاستفزاز والتشنج.
فهل اقتربنا فعلا من لحظة الخروج من النفق المظلم الذي يعيشه القطاع بفعل الإضرابات المستمرة...؟؟
في اعتقادي، ما فصل فيه ممثل وزارة التربية الوطنية والتعليم الأولي والرياضة، تميز بالوضوح وبين تفاصيل ما قدمته الحكومة للأساتذة من مكتسبات جديدة تشكل قفزة مادية غير مسبوقة في تاريخ القطاع، حيث لا تنحصر الزيادات في مبلغ 1500 درهم، تمنح على سنتين، بل هنالك تعويضات أخرى ترتبط ببعض المهام، و أخرى تترتب على أثر الترقيات التي تصبح أكثر يسرا. بما يعني، في المحصلة، أننا بصدد زيادات مالية مهمة، رغم مشروعية انتظار الأساتذة لزيادات أكبر.
شخصيا، لمست رغبة صادقة في فتح الباب أمام حوار موسع يشمل تمثيلية كل النقابات، حتى تلك التي سبق أن رفضت الحوار وخرجت منه، إضافة إلى ضم تمثيلية لتنسيقيات الأساتذة للحوار. و هذا أمر مهم و جدير بالتنويه، تأكد من خلال الاجتماعات التي تمت اليوم.
ممثل الوزارة قال، أيضا، أن حل "تجميد النظام الأساسي" (ولو أنه تم بشكل فيه نقاش من الناحية الشكلية القانونية!!!)، أفضل من حل "سحب النظام الأساسي"، لأنه يبقي إمكانية التفاوض لتصحيح النقط التي تستحق ذلك، في أجل أقصاه 15 يناير 2024 (التزام حكومي!). و يبدو لي هذا الأمر منطقي إلى حد بعيد، خاصة أن حل "التجميد" عوض "السحب"، يضمن إمكانية حفظ المكتسبات الإيجابية التي أتى بها النظام الأساسي لعدد من الفئات الأخرى في قطاع التربية الوطنية، باعتراف الأساتذة أنفسهم. وعلى العكس من ذلك، "سحب النظام الأساسي" سيعني الانطلاق مجددا في مسار تفاوضي قد يستغرق سنتين أو أكثر، وهذا أمر غير صحي ...
مما لاشك فيه أن رسالة الأساتذة، ومطالبهم المشروعة بتغيير وضعهم المادي الحالي الذي لا يحفظ لهم الكرامة، قد وصلت بقوة وتحقق بفضلها جزء كبير مما ناضلوا من أجله، ولم يبق سوى القليل الذي يمكن بلوغه في جو تفاوض إيجابي. لذلك، من حق المجتمع أن يتطلع إلى إنضاج موقف وطني ومواطن Patriotique et citoyen ، يتجلى في قرار الأساتذة العودة إلى أقسامهم، كتعبير إيجابي يؤكد سعيهم لإنقاذ أولاد الشعب المغربي، في المدن و أحيائها الفقيرة وهوامشها، وفي القرى والجبال، وتجنيبهم هدر مزيد من الزمن التربوي بالشكل الذي يتم منذ شهرين، لأنه من غير المعقول أن يؤدي أطفالنا ثمنا باهظا في نزاع مهني لم يستشرهم أحد فيه، ولم يتأكد أحد من أن أولاد الشعب يقبلون تأدية ذلك الثمن.
في اعتقادي، شهران من الإضرابات تكفي و زيادة، ومن الأفضل أن يقرر الأساتذة، بإرادة حرة منهم وبحماس حقيقي، العودة للأقسام والاستمرار في نهج التفاوض لتحقيق باقي المطالب، خاصة مسألة التعديلات المطلوبة في النظام الأساسي، في أفق يوم 15 يناير 2024، كحد أقصى. و لاشيء يمنع من العودة لأشكال نضالية جديدة في أي حين، إذا تبين أن المطلوب لم يتحقق.
الموقف دقيق جدا، يفرض القطع مع منطق الصراع والابتعاد عن المزايدات والغلو في المواقف "النضالية"، لأن موضوع التعليم استراتيجي، في القلب منه الحق المقدس لأولاد الشعب في التعليم، الذي لا يمكن تجاوزه أو جعل التلاميذ رهائن لتجاذبات لا نهاية لها ولا سقف، على خلفية مطالب مهنية فئوية مادية، كيفما كانت درجة مشروعيتها.
بالتأكيد، أنا لا أناقش مشروعية مطالب الأساتذة، ولم يسبق لي أن كتبت سلبيا ضدها أو أستنكرتها خلال الأيام الماضية، لأنني أعي جيدا أن 5000 درهم لا تحقق كرامة الأستاذ في أجواء الغلاء وارتفاع تكاليف المعيشة.
وأعرف تمام المعرفة صعوبة الظروف التي يؤدي فيها الاساتذة مهامهم، خاصة في القرى و المناطق النائية حيث لا توجد دائما التجهيزات والمواصلات وباقي المقومات الأساسية للحياة. لكنني، اليوم، بالرغم من كل رصيد التفهم الممكن، أقول كفى هدرا للزمن التربوي ... كفى لأن الأسر تتألم بشدة، والأمهات والأباء يبكون من تداعيات وضع يعني بالنسبة إليهم ضياع أبنائهم بشكل لم يعد يطاق.
لتلك الاعتبارات، أتمنى من أخواتي وإخواني الأساتذة في كل جهات وطننا الغالي، أن يعودوا ليحتضنوا التلاميذ في الأقسام والمدارس و الثانويات. وكما ناضلوا دفاعا عن كرامتهم، على الأساتذة أن يعودوا لينتصروا لكرامة التلاميذ أولاد الشعب الذين يستحقون منهم، و يستحقون منا جميعا كمجتمع و دولة، أن نخلق دينامية تربوية جديدة تطبعها الجدية والعمل الرصين والبناء من أجل رفعة الوطن ومصلحة المواطنين...
أملي كبير، وأنا متفائل بقرب ساعة الفرج، بنجاح وزارة التربية الوطنية والتعليم الأولي والرياضة، و من ورائها كل الحكومة، في السير إلى أبعد حد في ديناميكية اجتهاد تدبيري يتسنى عبره الوصول إلى توافقات إيجابية تنتقل بنا، مجتمعا ودولة، إلى مسار استراتيجي غير مسبوق لإخراج المدرسة العمومية من غرفة الإنعاش التي دخلت إليها منذ فترة، قبل أن يموت الأمل في نفوس أولاد الشعب.