العلم الإلكترونية - محمد الحمامصي (كاتب مصري)
تحولت الرواية العربية مع تراكم تجاربها إلى سلطة لفظية وحتى معرفية وثقافية، إذ تدمج الروايات مختلف الفنون الأدبية الأخرى علاوة على أنها تجاوزت هدف المتعة والحكاية إلى أن تصبح وسيلة معرفة ونقد للواقع وإعادة تمثيله وغيرها من الوظائف التي يبحث فيها الناقد المغربي محمد الداهي بدقة.
كيف تشتغل سلطة التلفظ في الرواية العربية؟ ولأي أهداف ومساع؟ لم تشترك الرواية العربية مع غيرها من أشكال التعبير في إعادة تمثيل الأنساق الرمزية، وفي مقدمتها النسق اللغوي بحمولته الفكرية والعاطفية، وبتعدد أصواته وقيمه وآثاره؟ كيف تتجسد سلطة التلفظ في الرواية العربية بصفته أثرا وتأثيرا؟ ما القيمة الفنية التي تضفيها سلطة التلفظ على الرواية العربية أسوة بالرواية العالمية؟
هذه التساؤلات الإشكالية تشكل محور كتاب الناقد والمفكر المغربي محمد الداهي “سلطة التلفظ” الحائز سابقا على “جائزة كتارا للرواية العربية” فئة الدراسات النقدية.
سلطة التلفظ
يواصل الداهي في الكتاب مشروعه النقدي الكبير المتمثل في استجلاء الجوانب التلفظية ذات الصلة بالمتكلم وآثار سلطة التلفظ في السرد العربي، ليستكمل رؤيته في كتابه السابق “السارد وتوأم الروح من التمثيل إلى الاصطناع”، تنظيرا وتطبيقا.
قسم الناقد المتن إلى مستويين نصيين الأول المستوى النصي المكبر عالج فيه رواية “الصندوق العجيب” لأحمد الصفريوي، ورواية “الماضي البسيط” لإدريس الشرايبي، والمقاطع الخمسة من رواية “المجرى الثابت” لعمران إدمون المالح. وفي هذا الإطار، شغل – حسب ما تستدعيه طبيعة كل نص على حدة – المقولات الكبرى، من قبيل: المنظور الحدثي، والمنظور الظرفي والمنظور اللغوي. وثانيا المستوى النصي المصغر الذي شغل فيه عبدالله علوي المدغري المقولات نفسها على مقتطفات نصية مأخوذة من رواية “حرودة” للطاهر بنجلون، والسيرة الذاتية “الذاكرة الموشومة” لعبدالكبير الخطيبي، ورحلة “العين والليل” لعبداللطيف اللعبي.
يقول الداهي “يتعلق موضوع السلطة بما تتحلى به اللغة من قوة تحدثية أو إنجازية للتأثير على المخاطب، وإخضاعه؛ وهذا ما يحتم عدم التعامل معها بصفتها كيانا مستقلا أو مستقرا، بل مجالا متحركا ومائجا يتولد عنه العنف، وتتضارب فيه المصالح والآراء المختلفة. عولج هذا الموضوع بإسهاب فلسفيا ولغويا حرصا على الإلمام بجوانبه. وأذكر بداية أعمال ميشيل فوكو، وبيير بورديو، ورولان بارث، الذين يعتبرون السلطة موكولة ومخولة لمن له حق التلفظ والتحدث ‘المتكلم الجماعي’ باسم مؤسسة أو جهة معينة، في حين قد لا يسري التفويض على متكلمين آخرين بحرمانهم من التحدث بلسانها لبواعث متعددة، قوانين الاستبعاد”.
ويضيف “أيضا عمل جان جاك لوسركل الذي أوقف كتابه ‘عنف اللغة’ على دراسة ما يتمتع به المتكلم من حرية في استعمال اللغة، وخاصة المتبقي منها ‘الجزء الغريب والفوضوي والخلاق في اللغة، واللعب بها’، لإبراز قدراته اللغوية على تغيير موازين القوة وعلائقها لصالحه”.
ويشير أخيرا إلى كتاب “قوة الكلمات، سياسة الإنجاز” 2004 الذي يستمد مفعوله من شعائر السحر الاجتماعي، وفي مقدمتها قدرات المتلفظ ومميزاته، ووظيفته الاجتماعية، وخصائص المؤسسة التي فوضت له أمر التحدث باسمها، ووفرت له أيضا الشروط التي تستدعي الإجراءات والصيغ اللغوية المناسبة. وانكبت ـ في الجانب التطبيقي – على تبيان الهشاشة اللغوية في تعامل المجتمع مع عينة من الفئات المهمشة، وفي مقدمتها المرأة.
ويلفت الداهي إلى أنه عالج الموضوع من زاوية أخرى تهم اشتغال السلطة التلفظية في الخطاب الروائي. ويقول “أعتقد – بحسب علمي المتواضع – أن هذا الموضوع طريف وجديد لا يتعلق فحسب بسلطة اللغة أو عنفها في إطار العلاقة التراتبية التي تربط بين المُهيمن والمَهيمن عليه، وتؤطرها شروط شعائر السحر الاجتماعي، بل بفاعليتها وقوتها الإنجازية ومؤشراتها التلفظية”.
ويبين كيف استلهم – في هذا السياق – بعض النقاد والباحثين العرب أدوات النظرية التلفظية، ووظفوها في خطابات مختلفة لتبين تضاريسها وبنياتها التلفظية من زوايا متعددة، لكن ما يميز مشروعه هو عن هذه الأعمال الطليعية هو أنه يستعين بالعدة التلفظية المدمجة في المنهج السيميائي لمواكبة الطفرة التي تحققت من البنيوية إلى ما بعد البنيوية من جهة، وتشييد المعنى المضمر والموري في الأنساق التلفظية من جهة ثانية.
ويؤكد الداهي أن مشروعه في هذا الكتاب يروم إبراز كيف تستعين السلطة بالتلفظ لتعزيز حضورها “استدامة الأثر” وتقوية مفعولها “استدامة التأثير”. فهي من حيث الأثر لا تحاكي الواقع، بل تحتويه، وتتضمنه ليغدو ملازما لبنيتها على هيئة آثار مادية دالة عليها. وهي من حيث التأثير تعيد تمثيل الصراع “الحرب التلفظية” بين القوى المتناقضة والمتصارعة التي تمارس على بعضها بعضا العنف والعنف المضاد لربح المعركة وكسب المواقع المنشودة.
قسم الناقد المتن إلى مستويين نصيين الأول المستوى النصي المكبر عالج فيه رواية “الصندوق العجيب” لأحمد الصفريوي، ورواية “الماضي البسيط” لإدريس الشرايبي، والمقاطع الخمسة من رواية “المجرى الثابت” لعمران إدمون المالح. وفي هذا الإطار، شغل – حسب ما تستدعيه طبيعة كل نص على حدة – المقولات الكبرى، من قبيل: المنظور الحدثي، والمنظور الظرفي والمنظور اللغوي. وثانيا المستوى النصي المصغر الذي شغل فيه عبدالله علوي المدغري المقولات نفسها على مقتطفات نصية مأخوذة من رواية “حرودة” للطاهر بنجلون، والسيرة الذاتية “الذاكرة الموشومة” لعبدالكبير الخطيبي، ورحلة “العين والليل” لعبداللطيف اللعبي.
يقول الداهي “يتعلق موضوع السلطة بما تتحلى به اللغة من قوة تحدثية أو إنجازية للتأثير على المخاطب، وإخضاعه؛ وهذا ما يحتم عدم التعامل معها بصفتها كيانا مستقلا أو مستقرا، بل مجالا متحركا ومائجا يتولد عنه العنف، وتتضارب فيه المصالح والآراء المختلفة. عولج هذا الموضوع بإسهاب فلسفيا ولغويا حرصا على الإلمام بجوانبه. وأذكر بداية أعمال ميشيل فوكو، وبيير بورديو، ورولان بارث، الذين يعتبرون السلطة موكولة ومخولة لمن له حق التلفظ والتحدث ‘المتكلم الجماعي’ باسم مؤسسة أو جهة معينة، في حين قد لا يسري التفويض على متكلمين آخرين بحرمانهم من التحدث بلسانها لبواعث متعددة، قوانين الاستبعاد”.
ويضيف “أيضا عمل جان جاك لوسركل الذي أوقف كتابه ‘عنف اللغة’ على دراسة ما يتمتع به المتكلم من حرية في استعمال اللغة، وخاصة المتبقي منها ‘الجزء الغريب والفوضوي والخلاق في اللغة، واللعب بها’، لإبراز قدراته اللغوية على تغيير موازين القوة وعلائقها لصالحه”.
ويشير أخيرا إلى كتاب “قوة الكلمات، سياسة الإنجاز” 2004 الذي يستمد مفعوله من شعائر السحر الاجتماعي، وفي مقدمتها قدرات المتلفظ ومميزاته، ووظيفته الاجتماعية، وخصائص المؤسسة التي فوضت له أمر التحدث باسمها، ووفرت له أيضا الشروط التي تستدعي الإجراءات والصيغ اللغوية المناسبة. وانكبت ـ في الجانب التطبيقي – على تبيان الهشاشة اللغوية في تعامل المجتمع مع عينة من الفئات المهمشة، وفي مقدمتها المرأة.
ويلفت الداهي إلى أنه عالج الموضوع من زاوية أخرى تهم اشتغال السلطة التلفظية في الخطاب الروائي. ويقول “أعتقد – بحسب علمي المتواضع – أن هذا الموضوع طريف وجديد لا يتعلق فحسب بسلطة اللغة أو عنفها في إطار العلاقة التراتبية التي تربط بين المُهيمن والمَهيمن عليه، وتؤطرها شروط شعائر السحر الاجتماعي، بل بفاعليتها وقوتها الإنجازية ومؤشراتها التلفظية”.
ويبين كيف استلهم – في هذا السياق – بعض النقاد والباحثين العرب أدوات النظرية التلفظية، ووظفوها في خطابات مختلفة لتبين تضاريسها وبنياتها التلفظية من زوايا متعددة، لكن ما يميز مشروعه هو عن هذه الأعمال الطليعية هو أنه يستعين بالعدة التلفظية المدمجة في المنهج السيميائي لمواكبة الطفرة التي تحققت من البنيوية إلى ما بعد البنيوية من جهة، وتشييد المعنى المضمر والموري في الأنساق التلفظية من جهة ثانية.
ويؤكد الداهي أن مشروعه في هذا الكتاب يروم إبراز كيف تستعين السلطة بالتلفظ لتعزيز حضورها “استدامة الأثر” وتقوية مفعولها “استدامة التأثير”. فهي من حيث الأثر لا تحاكي الواقع، بل تحتويه، وتتضمنه ليغدو ملازما لبنيتها على هيئة آثار مادية دالة عليها. وهي من حيث التأثير تعيد تمثيل الصراع “الحرب التلفظية” بين القوى المتناقضة والمتصارعة التي تمارس على بعضها بعضا العنف والعنف المضاد لربح المعركة وكسب المواقع المنشودة.
الرواية عمل تخييلي وأداة لإنتاج المعرفة، وإثارة النقاش حول الكثير من القضايا الحيوية التي تستأثر باهتمام الناس
ووفق رأيه، تستوعب الرواية السلطة التلفظية لإعادة تمثيل الواقع بطريقة مغايرة “التمثيل المضاد”، ومساءلته من جديد بالكشف عن تناقضاته وعيوبه وآفاقه المحتملة. وهي – بهذا الصنيع – تستثمر التلفظ بصفته أثرا يحوّل الواقع إلى مواد لغوية ورمزية “الذاتية في اللغة، الصيغ التثمينية، الجهات، الموري، الإضمار، عاملا التلفظ”، ويعيد الاعتبار إلى الأصوات المهمشة أو المقصية “أصوات المغضوب عليهم”، أو المغيبة “أصوات المتكلمين المجهولين”، وتوظف التلفظ أيضا باعتباره تأثيرا يمارسه الطرف المهيمن لمغالطة الطرف الآخر وتضليله وتطويعه لاستقواء النفوذ والهيمنة، واستدامة المصلحة.
ويلاحظ أن التلفظ يكتسب مشروعيته من السلطة التي وظفته لخدمة أغراضها ومآربها. وهذا ما يمنح متلفظا الحق في التلفظ والكلام وفق معايير المؤسسة التي ينتمي إليها، وما يحرم متلفظا آخر من هذا الحق لأنه يتلفظ كلاما “أرعن وتافها” ينبغي إبعاده وإخراسه لخطورته على الذوق العام.
ومن ميزات الرواية أنها تستوعب الصوتين معا “الشرعي والمبعد” على خلفية حوارية لإبراز تناقضهما في الرأي، وتنافسهما على السلطة. وفي هذا الصدد، يتبين أن الصراع قد يستند إلى “التفاهم اللغوي” لتنسيق المصالح والبرامج المشتركة، وتحقيق الأهداف الجماعية “المسعى الديمقراطي”، وقد يقوم على المغالطة والمخادعة لتكريس هيمنة طرف على الطرف الآخر “المسعى التطويعي”.
وتمثل الرواية العربية الصراع على السلطة وفق الاختيار الثاني، الذي يضرب جذوره في السرد القديم “كليلة ودمنة، وألف ليلة وليلة، والمقامات”، واستقوى بالمعدات التكنولوجية المتطورة، وأضحى يشكل خطرا على نفسية الإنسان وأمنه وكرامته وحريته.
واكتفى الناقد ـ في هذا الصدد ـ بالوسيط السردي الذي يستثمر المؤشرات التلفظية للتأثير على المخاطب، واستمالته، وإخضاعه، وتطويعه. ومن أنواع التطويع التي وظفتها الرواية العربية يذكر التطويع الأيديولوجي “التلقين المذهبي” و”شحن دماغ المواطن بفوائد الليبرالية الجديدة”، والتطويع الذهني “سعي التيارات الدينية المتطرفة إلى غسل دماغ الإنسان لخدمة أهدافها الجهادية”، وبالمقابل تقوم الأنظمة الغربية ببرمجته والتحكم فيه عن بعد توجسا من ردود فعله، والتطوع المعرفي “استخدام المعلومات والحجج المنظمة والمتسقة لكسب المواقع المنشودة”، والتطويع الانفعالي ”استثمار مثير الانفعال للضرب على وتر المخاطب الحساس”.
مغامرة الرواية
يشير الداهي إلى أنه لم يكن هدفه إبراز سلطة اللغة فحسب، بل بيان أدائها التلفظي أيضا. وهذا ما يستدعي من المتلفظ – علاوة على امتثاله لضوابط المؤسسة – أن يكون مؤهلا للقيام بدوره التحدثي كما يجب “التلاعب باللغة، استخدام الجهات التحدثية المناسبة، حسن قراءة الرسائل المسترجعة” حتى يؤدي البرنامج السردي المنوط به.
ويبين كيف يستخدم المتلفظ الكلام في المجتمع الديمقراطي لتبادل الخبرات ووجهات النظر، وتنسيق المصالح المشتركة حرصا على تقاسم السلطة. في حين ينزع المتلفظ في المجتمع الذي يسود فيه قانون الغاب “السيطرة الأقوى والأذكى” إلى تطويع المخاطب لتعزيز سلطته، وتحقيق مراده.
لم يكتف الناقد بمفعول التلفظ فحسب، بل بأثره أيضا. وهكذا أبرز كيف يشيد الواقع من جديد. وتمنح له منزلة تلفظية في الرواية. قد يتلاشى الواقع بمرور الوقت، لكن آثاره التلفظية تظل ملازمة للنص إلى الأبد. ومن ثم، يقدم التلفظ شهادة عن الواقع باحتوائه واستيعابه في حلة تخييلية جديدة، وكشف تناقضاته وعيوبه بحثا عن بدائل جديدة للحياة المرفهة والكريمة “دور اللغة العربية في التلاحم الطائفي”، “رواية البئر الأولى”، استفحال المشكالت الاجتماعية بسبب تداعيات الليبرالية المتوحشة “رواية ذات”، تذمر المصريين من الملكية وتطلعهم إلى نظام سياسي جديد “رواية التلصص”، تعليق المغاربة آمالا عريضة على “حكومة التناوب التوافقي برئاسة عبدالرحمن اليوسفي”، “رواية الأناقة”، تكرار التجارب نفسها والبحث عن البدائل الممكنة “رواية الضوء الهارب”، اكتساب المهاجرين هويات متحركة وهجينة “رواية بدل من ضائع”.
ويقول “لقد توقفنا في السياق نفسه عند الكفاية المعيارية للمتلفظ في تعيير الأشياء والمخلوقات وتقييمها ‘الصيغ التثمينية’، واكتشاف دخيلة الإنسان العربي وحقيقته المجهولتين، والسعي إلى فهم أفضل للتجارب الإنسانية والوضع البشري. وهكذا يستديم الواقع في الرواية على شاكلة آثار تلفظية تدل عليه وإن كان لمفعولها وقع أكثر مما يحتمله. فضلا عن ذلك ترصد الرواية العوائق التي تحول دون توطد الديمقراطية في العالم العربي، وتحسن المستوى المعيشي للسكان، وتدخل أيضا في حوار مع نفسها لمساءلة صنعتها روايات: ‘بدل من ضائع، الضوء الهارب، معذبتي’، وتجديد شكلها روايات: ‘ذات، التلصص’، وخلخلة لغتها إذ تستخدم معظم الروايات التهجين والمحاكاة الساخرة. وبذلك، حصل التحول من رواية المغامر إلى مغامرة الرواية؛ أي من رصد مغامرات البطل لتحقيق برنامجه في الحياة إلى البحث عن أشكال جديدة لتمثيل الواقع بطريقة جديدة”.
ويرى أن المتلفظ لا يخوض صراعا مع الآخر فحسب، بل مع ذاته أيضا. وهكذا يمكن للمتلفظ أن يفتح أبوابا سرية لمكاشفة ذاته وطويته باعتماد الثنائية الصوتية أو التلفظ المزدوج. ونظرا إلى تعمق الفجوة الزمنية، يتعذر على السارد أن يسترجع تلفظ قرينه كما هو، ولذا يسقط عليه أهواءه ومشاعره ومواقفه، ويرغمه على تخيل ما لم يكن وافتراضه لملء ثغرات الذاكرة “تخييل التجربة الشخصية”.
ويبين كيف يستخدم المتلفظ الكلام في المجتمع الديمقراطي لتبادل الخبرات ووجهات النظر، وتنسيق المصالح المشتركة حرصا على تقاسم السلطة. في حين ينزع المتلفظ في المجتمع الذي يسود فيه قانون الغاب “السيطرة الأقوى والأذكى” إلى تطويع المخاطب لتعزيز سلطته، وتحقيق مراده.
لم يكتف الناقد بمفعول التلفظ فحسب، بل بأثره أيضا. وهكذا أبرز كيف يشيد الواقع من جديد. وتمنح له منزلة تلفظية في الرواية. قد يتلاشى الواقع بمرور الوقت، لكن آثاره التلفظية تظل ملازمة للنص إلى الأبد. ومن ثم، يقدم التلفظ شهادة عن الواقع باحتوائه واستيعابه في حلة تخييلية جديدة، وكشف تناقضاته وعيوبه بحثا عن بدائل جديدة للحياة المرفهة والكريمة “دور اللغة العربية في التلاحم الطائفي”، “رواية البئر الأولى”، استفحال المشكالت الاجتماعية بسبب تداعيات الليبرالية المتوحشة “رواية ذات”، تذمر المصريين من الملكية وتطلعهم إلى نظام سياسي جديد “رواية التلصص”، تعليق المغاربة آمالا عريضة على “حكومة التناوب التوافقي برئاسة عبدالرحمن اليوسفي”، “رواية الأناقة”، تكرار التجارب نفسها والبحث عن البدائل الممكنة “رواية الضوء الهارب”، اكتساب المهاجرين هويات متحركة وهجينة “رواية بدل من ضائع”.
ويقول “لقد توقفنا في السياق نفسه عند الكفاية المعيارية للمتلفظ في تعيير الأشياء والمخلوقات وتقييمها ‘الصيغ التثمينية’، واكتشاف دخيلة الإنسان العربي وحقيقته المجهولتين، والسعي إلى فهم أفضل للتجارب الإنسانية والوضع البشري. وهكذا يستديم الواقع في الرواية على شاكلة آثار تلفظية تدل عليه وإن كان لمفعولها وقع أكثر مما يحتمله. فضلا عن ذلك ترصد الرواية العوائق التي تحول دون توطد الديمقراطية في العالم العربي، وتحسن المستوى المعيشي للسكان، وتدخل أيضا في حوار مع نفسها لمساءلة صنعتها روايات: ‘بدل من ضائع، الضوء الهارب، معذبتي’، وتجديد شكلها روايات: ‘ذات، التلصص’، وخلخلة لغتها إذ تستخدم معظم الروايات التهجين والمحاكاة الساخرة. وبذلك، حصل التحول من رواية المغامر إلى مغامرة الرواية؛ أي من رصد مغامرات البطل لتحقيق برنامجه في الحياة إلى البحث عن أشكال جديدة لتمثيل الواقع بطريقة جديدة”.
ويرى أن المتلفظ لا يخوض صراعا مع الآخر فحسب، بل مع ذاته أيضا. وهكذا يمكن للمتلفظ أن يفتح أبوابا سرية لمكاشفة ذاته وطويته باعتماد الثنائية الصوتية أو التلفظ المزدوج. ونظرا إلى تعمق الفجوة الزمنية، يتعذر على السارد أن يسترجع تلفظ قرينه كما هو، ولذا يسقط عليه أهواءه ومشاعره ومواقفه، ويرغمه على تخيل ما لم يكن وافتراضه لملء ثغرات الذاكرة “تخييل التجربة الشخصية”.
المؤشرات التلفظية تظل محافظة على راهنيتها إلى الأبد، وهذا ما يؤهلها إلى تقديم شهادة عن الواقع العربي في مخاضه العسير "تفاقم الليبرالية المتوحشة، التطرف الديني، الهجرة.."
وبالمقابل، يفضح القرين لعبة التصنع بكشف الماضي الشخصي لصانعه، والبوح باستيهاماته وأسراره الغافية، وأحلامه المحبطة، واستحضارا للعوامل النفسية التي أسهمت في تكوين شخصيته، “ما مثلته معظم الروايات، وخاصة روايتي ‘التلصص’ و’البئر الأولى'”.
ويخلص الداهي إلى أن المؤشرات التلفظية تظل محافظة على راهنيتها إلى الأبد، وهذا ما يؤهلها إلى تقديم شهادة عن الواقع العربي في مخاضه العسير “تفاقم الليبرالية المتوحشة، استفحال الجريمة، التطرف الديني، الهجرة واضطراب الهوية وهجونتها، الكبت الجنسي، تعد والحرمان الاجتماعي”. وعلاوة على كون الرواية عملا تخييليا تعد أداة لإنتاج المعرفة، وإثارة النقاش حول الكثير من القضايا الحيوية التي تستأثر باهتمام الناس.
لم يراهن الروائيون على ترفيه القارئ أو تلقينه معارف جاهزة، بل تحفيزه على استشفاف البدائل الممكنة للعيش، وأشكال الحياة المختلفة والمتنوعة. فضلا عن قدرة الرواية على استشفاف السرائر، توطد أيضا دعامات “الديمقراطية الداخلية” التي يسترجع بموجبها الفرد المقصي أو المبعد حقه في التعبير عن رأيه بالفضاءات العمومية دون خوف أو وجل. وهذا ما جعل الروائيين العرب ـ بحسب تباين وجهات نظرهم ومشاربهم ـ يشخصون “الحرب التلفظية” بين من يكرس هيمنته ونفوذه بطرائق ملتوية ومن يطالب بحقه في التلفظ على أساس تعاقد بناء وواضح.
قد يخل هذا التصادم بمقومات الديمقراطية السردية الداخلية التي تراهن أساسا على التفاهم والتحاور والتعاون والتراضي لتحقيق الأهداف الجماعية المشتركة، لكنه يسهم “عكس ما يجري في الواقع” في خلق لغة جديدة، والتخفيف من وطأة سرديات العنف والترهيب واكتشاف الحقائق والعوالم الممكنة، وتوسيع هامش البوح والمكاشفة والشفافية الداخلية.